أنا لا أؤمن بالمحتوى السريع… لأن الثقافة تحتاج وقتًا
بقلم: آية علي الزين
في زمنٍ يُقاس فيه كلّ شيء بالسرعة، من الطعام إلى العلاقات إلى طريقة التفكير، صار بديهيًا أن يمتدّ هذا الهوس إلى المعرفة نفسها. نقرأ بسرعة، نكتب بسرعة، نتعلّم بسرعة، وننسى بسرعة أيضًا. صار المحتوى السريع هو سيّد المشهد: مقاطع قصيرة، مقالات مختزلة، وأفكار جاهزة تُقدَّم كما تُقدَّم الوجبات السريعة، تُشبِع لحظة الجوع لكنها لا تُغذّي العقل ولا تترك أثرًا.
لكنّ الثقافة — الحقيقية لا الاستعراضية — لا تُبنى في دقيقة، ولا تُختزل في اقتباس على “إنستغرام”، ولا تُختصر في مقطع من 15 ثانية. الثقافة تحتاج وقتًا، تحتاج تأملًا، تحتاج بطئًا. لأنّ المعرفة ليست كمية من المعلومات نحشو بها عقولنا، بل تجربة إنسانية كاملة تُغيّر طريقة نظرنا إلى العالم.
منطق السرعة… ضد منطق العمق
في عالمنا الحديث، لم يعد الوقت يُقاس بالساعات بل بالانتباه. اقتصاد “السكورل” (Scroll Economy) يحكم عقولنا: ما إن يملّ القارئ بعد ثوانٍ، ينتقل إلى التالي. لهذا صار كل شيء يُبسَّط حتى درجة التفاهة. المقالات الطويلة تُختصر إلى عناوين، والعناوين تُختصر إلى تغريدة، والتغريدة تُختصر إلى “ميم”.
تُغتال الفكرة قبل أن تنضج.
لكن العمق لا يُختصر، والوعي لا يُسرَّع. الفكر يحتاج زمنًا لكي يتكوّن، كما يحتاج الخبز وقتًا ليختمر قبل أن يصبح صالحًا للأكل. كل محاولة لتسريع الثقافة تشبه محاولة طهي كتاب في الميكروويف. ستحصل على شيء دافئ، لكنه بلا طعم ولا روح.
المحتوى السريع لا يعلّم… بل يُلهي
المفارقة أن الكم الهائل من المحتوى الذي نستهلكه كل يوم يجعلنا نشعر أننا نعرف أكثر، بينما نحن نغرق أكثر في السطحية.
تبدو المعلومات متوفّرة بلا حدود، لكن الوعي يقلّ، لأننا لا نمنح أي فكرة وقتها الكافي لتستقرّ في عقولنا.
القراءة العميقة، على عكس التصفّح السريع، هي فعل مقاومة ضد التشتّت. حين تقرأ ببطء، أنت تستعيد سيادتك على وقتك، وتستعيد علاقتك بالعقل.
إن الثقافة ليست مجرّد استهلاك للمعلومات، بل إعادة تأويلٍ لها. والإنسان المثقف ليس من يحفظ أكثر، بل من يفهم أكثر، ومن يعرف كيف يربط بين الأفكار بخيطٍ من الوعي.
حين تحوّلنا إلى مستهلكين للمعرفة
في عصر المحتوى السريع، صار العقل مثل “الصفحة الرئيسية” لموقع مزدحم بالإعلانات. كل فكرة تمرّ بسرعة البرق ثم تختفي، ليحلّ محلّها سيل جديد من الأفكار المتضاربة.
تحوّلنا من قرّاء إلى متصفّحين، ومن مفكّرين إلى مستهلكين.
حتى “المثقف” اليوم يُقاس بعدد المتابعين لا بجودة الفكر، وعدد المشاهدات لا بعمق الفكرة.
وهنا تكمن المأساة: حين تصبح الثقافة سلعة، تفقد روحها. وحين يصبح الوعي ترندًا، يُفقد معناه.
البطء فعل مقاومة
في عالمٍ يتسابق فيه الجميع للوصول أولًا، اختاري أن تكوني آخر من يصل… ولكن أعمق من يفهم.
البطء في القراءة، في الكتابة، في التلقّي، ليس تخلّفًا عن العصر، بل موقفًا فكريًا مقاومًا.
لأنّ من يقرأ ببطء يرى التفاصيل التي لا يراها المتعجّلون، ومن يكتب برويّة يترك في كلماته أثرًا لا يزول.
الثقافة، في جوهرها، ليست “محتوى” يُستهلك، بل رحلة تُعاش. والكاتب الحقيقي لا يبحث عن الإعجاب، بل عن الدهشة. لا يريد قارئًا عابرًا، بل قارئًا يُعيد التفكير في ما قرأه حتى بعد أيام.
الوعي لا يُباع في مقطع
حين نفهم أن “الوعي” ليس سلعة، سنبدأ بإعادة الاعتبار للبطء.
اقرأ نصًّا طويلًا دون أن تشعر بالذنب.
شاهد فيلمًا كاملاً دون أن تمسك هاتفك.
استمع إلى حوار فكري دون أن تفتّش عن خلاصة.
اسمح للأفكار أن تنمو داخلك كما تنمو الأشجار في أرض خصبة.
الثقافة تحتاج وقتًا، والوقت يحتاج احترامًا، والاحترام يبدأ من أن نؤمن بأنّ العقل لا يُختصر.
في النهاية
أنا لا أؤمن بالمحتوى السريع…
لأنّ ما يُبنى بسرعة، ينهار بسرعة.
ولأنّ الثقافة ليست سباقًا، بل مسيرة طويلة من التأمل، والفهم، وإعادة الاكتشاف.
من أراد أن يُغيّر العالم حقًا، عليه أولًا أن يتعلّم كيف يُبطئ.
فالثقافة — في زمن السرعة — أصبحت أبطأ أشكال الثورة.


