الأيديولوجيا في السينما العالمية: من النازية إلى هوليوود
بقلم: آية علي الزين
لم تكن السينما يومًا مجرد فن بصري يهدف إلى الترفيه أو تسلية الجماهير، بل شكّلت منذ ولادتها في بدايات القرن العشرين أداة استراتيجية لتشكيل العقول وصياغة المخيال الجمعي للشعوب. فالفن السابع، بما يملكه من قدرة على المزج بين الصورة والصوت والحركة والرمز، سرعان ما استحوذت عليه الأيديولوجيات الكبرى باعتباره “آلة ناعمة” للهيمنة، قادرة على التسلل إلى الوعي واللاوعي معًا. من هنا، تحولت قاعات العرض إلى ما يشبه “مسرحًا سياسيًا” تتجلى فيه صراعات الفكر والسلطة، حيث يسعى كل نظام أو قوة عظمى إلى أن يجعل الشاشة مرآة لأحلامه وأطروحاته ومشاريعه.
السينما النازية: الصورة كسلاح دعاية
في ألمانيا النازية، أدرك جوزيف غوبلز، وزير الدعاية الشهير، أن الفيلم أداة لا تقل خطورة عن المدفع والدبابة. فاستُخدمت السينما لإعادة صياغة الوعي الألماني وترسيخ أسطورة “العرق الآري” المتفوّق. يكفي أن نستعيد فيلم “انتصار الإرادة” (1935) للمخرجة ليني ريفنشتال، الذي لم يكن مجرد وثائقي عن مؤتمر الحزب النازي في نورمبرغ، بل لوحة بصرية ضخمة تمجّد هتلر وتحوّله إلى رمز شبه مقدّس. هنا، لم تكن الكاميرا محايدة، بل انخرطت في مشروع أيديولوجي هدفه صناعة الزعيم وإضفاء هالة ميتافيزيقية عليه.
الأفلام النازية لم تقتصر على تمجيد الزعيم، بل نسجت روايات تحقيرية لليهود والغجر، وعملت على شيطنتهم كـ”أعداء داخليين”، مما سهّل لاحقًا تبرير سياسات الإبادة والاضطهاد. كانت السينما أداة للتعبئة الجماهيرية، حيث يتحول الفن إلى سلاح سياسي يسبق الرصاصة ويهيّئ لها الأرضية النفسية.
السينما السوفياتية: الشاشة بوصفها مختبرًا للثورة
على الضفة الأخرى، شكّلت السينما السوفياتية منذ ثورة أكتوبر 1917 ذراعًا أيديولوجيًا حاسمًا للماركسية–اللينينية. فالمخرج سيرغي أيزنشتاين، في أفلام مثل “البارجة بوتيومكين” (1925)، لم يكن مجرد فنان بل مهندس للوجدان الثوري، يوظف المونتاج الجدلي ليُحدث صدمات عاطفية وفكرية في المتلقي، ويحفّزه على الانحياز لقضية البروليتاريا.
بالنسبة للسلطة السوفياتية، لم يكن الفيلم مساحة للتجريب الفني فحسب، بل وسيلة تربوية تستهدف الجماهير العريضة، تنقل رسائل الحزب وتكرّس صورة “العامل–البطل” و”الفلاح–المنقذ”. وحتى حين تخللت السينما السوفياتية لحظات من الإبداع الفني الطاغي، بقيت تحت سقف الرقابة الأيديولوجية، حيث تقرر الدولة ما يجوز وما يُمنع، وما يخدم الثورة وما يهددها.
هوليوود والحلم الأميركي: أيديولوجيا السوق الحر
إذا كانت السينما النازية والسوفياتية قد وظفت الشاشة كمنبر صريح للدعاية، فإن هوليوود مارست الأيديولوجيا بطريقة أكثر نعومة ومكرًا. فهنا لا نجد زعيمًا يخطب أو حزبًا يوجّه الكاميرا، بل نجد “الحلم الأميركي” يتسرّب عبر القصص الرومانسية، وأفلام الأبطال الخارقين، وحكايات النجاح الفردي.
خلال الحرب الباردة، لعبت هوليوود دورًا محوريًا في تثبيت صورة الولايات المتحدة بوصفها “أرض الحرية والديمقراطية”، مقابل تصوير الاتحاد السوفياتي باعتباره عالمًا كئيبًا وقمعيًا. أفلام مثل “رامبو” أو الإنتاجات التي تناولت فيتنام لم تكن محض ترفيه، بل رسائل سياسية مقنّعة تسعى لإعادة صياغة صورة أميركا كقوة لا تُقهر، مهما تعثرت أو هُزمت عسكريًا.
اليوم، يواصل نموذج هوليوود إنتاج أيديولوجيا العولمة والرأسمالية، حيث يُعاد إنتاج قيم الاستهلاك، الفردانية، وقوة السوق، بطريقة تبدو طبيعية و”محايدة”، لكنها في العمق انعكاس لهيمنة ثقافية–اقتصادية على العالم.
السينما كفضاء للصراع الرمزي
تتجلى خطورة السينما في قدرتها على الجمع بين الإمتاع والإقناع، بين الفن والإيديولوجيا، بحيث يصعب على المتلقي التمييز بين الحقيقة والخيال، وبين الجمالي والسياسي. ومن هنا، يمكن القول إن كل سينما هي في جوهرها سياسية، سواء أعلنت ذلك بوضوح كما في التجربة النازية والسوفياتية، أو مارسته بخفاء كما في هوليوود. فالفيلم لا يقدّم الواقع فقط، بل يعيد صياغته وفق مصالح وقيم من يقف خلف الكاميرا.
بين الوعي والهيمنة
من النازية إلى هوليوود، ومن أيزنشتاين إلى ستيفن سبيلبرغ، تبقى السينما ساحة مشحونة بالصراعات الأيديولوجية، حيث تتقاطع السياسة بالثقافة، والسلطة بالجماليات. إن إدراك هذا البعد الأيديولوجي لا يعني بالضرورة اختزال السينما إلى أداة دعاية، لكنه يكشف عن عمقها وتأثيرها في تشكيل وعي الشعوب. وإذا كان القرن العشرون قد علّمنا شيئًا، فهو أن الفيلم ليس مجرد مرآة للواقع، بل هو قوة فاعلة في صنعه، وفي أحيان كثيرة، في تحريفه أيضًا.