الاستعمار الجديد: كيف تعود الهيمنة بصيغ اقتصادية وثقافية؟
بقلم: آية علي الزين
استعمار بلا جنود، سيطرة بلا أعلام
في زمن ما بعد الاستقلالات، حين طُوِيَت أعلام المستعمرات الأوروبية ورُفعت رايات الدول الوطنية، ظنّ كثيرون أن صفحة الاستعمار قد أُغلقت، وأن الشعوب قد انتقلت إلى عهد السيادة الكاملة. لكنّ الواقع أثبت أن الاستعمار لم يمت، بل تغيّر شكله. لم يعد احتلال الأرض ضرورياً، طالما يمكن احتلال العقول، أو خنق الاقتصادات، أو إدارة القرار السيادي من خلف الستار.
ما نعيشه اليوم ليس تحرّراً، بل انتقالاً من الاستعمار الكلاسيكي إلى ما يُعرف بـالاستعمار الجديد (Neocolonialism).
والأخير ليس أقل خطراً، بل هو أكثر دهاءً، وأعمق تغلغلاً، وأصعب كشفًا.
الاستعمار الكلاسيكي: تمهيد تاريخي لفهم التحوّل
قبل أن نفكّك بنية “الاستعمار الجديد”، لا بد من تذكّر أن الاستعمار التقليدي لم يكن مجرّد حملة عسكرية، بل مشروع متكامل للنهب والهيمنة.
الدول الأوروبية، بدءاً من القرن الخامس عشر، اجتاحت أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وأقامت أنظمة سياسية واقتصادية تخدم الميتروبول (العاصمة الاستعمارية).
موارد العالم تم نهبها، وثرواته أُعيد تصديرها، وثقافات الشعوب سُحقت باسم التمدّن والحضارة.
لكن هذا النمط، القائم على الاحتلال العسكري المباشر، بدأ يواجه مقاومات شرسة في القرن العشرين، لا سيما بعد الحربين العالميتين وصعود حركات التحرر الوطني.
وهنا، بدأ التحوّل.
ما هو الاستعمار الجديد؟ قراءة في المفهوم والتطبيق
المصطلح صكّه القادة الأفارقة أمثال “كوامي نكروما” (رئيس غانا) في ستينات القرن الماضي، للتعبير عن حقيقة أن الدول الاستعمارية انسحبت شكلياً، لكنها أبقت على أدوات السيطرة.
الاستعمار الجديد لا يعتمد على الجيوش، بل على أدوات أكثر نعومة، منها:
◾ الاقتصاد
◾ الإعلام
◾ الثقافة
◾ المؤسسات الدولية
◾ الشركات متعددة الجنسيات
◾ الدعم السياسي لأنظمة تابعة
بمعنى آخر، نُسِفت الخنادق، وبقيت السلاسل.
الهيمنة الاقتصادية: القروض، لا البنادق
من أخطر أدوات الاستعمار الجديد: الديْن العام.
صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذان تأسسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، باتا من أبرز أدوات إعادة تشكيل الاقتصادات النامية وفق رؤية ليبرالية لا تخدم بالضرورة مصالح الشعوب.
الدول، حين تواجه أزمات مالية، تُجبر على اللجوء إلى هذه المؤسسات، فتُمنَح قروضاً مشروطة بـ”برامج إصلاح” تتضمن:
- خصخصة القطاع العام
- تقليص الإنفاق الاجتماعي
- رفع الدعم عن السلع الأساسية
- تحرير السوق المحلي
النتيجة؟
● تراجع سيادة الدولة على اقتصادها
● هشاشة الطبقات الوسطى والفقيرة
● ازدهار النخب المرتبطة برأس المال العالمي
هكذا، يُفرض نموذج اقتصادي من الخارج، بلا اجتياح، بل من خلال “التوصيات”.
الثقافة كحصان طروادة: الهيمنة الرمزية
الهيمنة لا تقوم فقط على السيطرة على القرار الاقتصادي أو السياسي، بل على صناعة الوعي.
وهنا تلعب الثقافة والإعلام دورًا محوريًا.
الدول النامية، خصوصًا في العالم العربي وأفريقيا، أصبحت أسواقًا مفتوحة للإنتاج الثقافي الغربي:
- سينما هوليوود تهيمن على الخيال الجماعي
- منصات مثل “نتفليكس” و”أمازون” تصوغ القيم والسرديات
- اللغة الإنكليزية أصبحت رمزًا للرقي والنخبوية
- أنماط الحياة الغربية تُصدَّر على أنها النموذج الأرقى
المفارقة العميقة؟
الشعوب “المستقلة” تستهلك ثقافة غيرها، وتتبنى رموزه، وتُقصي لغاتها الأصلية وقيمها.
نحن أمام هيمنة ناعمة (Soft Power) تشوّه الهويات الوطنية وتغذّي التبعية الرمزية.
الشركات العابرة للحدود: إمبراطوريات بلا خرائط
في زمن العولمة، لم تعد الدول هي الفاعل المركزي، بل الشركات متعددة الجنسيات.
أمثلة حية:
- شركات مثل كوكاكولا وماكدونالدز وغوغل وآبل، تدخل الأسواق المحلية، تسيطر على الأذواق، تدمر الصناعات المحلية، وتجني المليارات.
- شركات الطاقة والتعدين تبرم عقودًا مجحفة في أفريقيا وآسيا، تستنزف الموارد، وتترك البيئة في حالة دمار.
هنا، يتم استعمار الموارد دون إطلاق رصاصة واحدة. ويُعاد إنتاج تبعية اقتصادية دائمة، عبر ما يسمى بـ”الاستثمار الأجنبي”، وهو في كثير من الأحيان غطاء لنهب جديد.
الدبلوماسية والإملاء السياسي
الاستعمار الجديد لا يكتفي بالاقتصاد والثقافة، بل يتدخّل سياسيًا:
- دعم أنظمة موالية ولو كانت استبدادية
- تأييد انقلابات ضد الحكومات التقدمية
- فرض مواقف سياسية مقابل المساعدات
- عسكرة المنطقة بوجود قواعد عسكرية أجنبية (كما في الخليج وأفريقيا)
السيادة السياسية تصبح مشروطة، تُدار من الخارج باسم “الاستقرار” أو “الحرب على الإرهاب”.
التعليم والإعلام: مناهج مُبرمَجة، صحافة مُروَّضة
هل تلاحظ كيف أن المناهج الدراسية في كثير من الدول العربية، مثلاً، تمجّد الماضي وتروّج للنمط النيوليبرالي في الحاضر؟
هل لاحظت كيف يتم إقصاء الفلسفة، تقزيم التاريخ، وتبسيط مفاهيم السياسة؟
الاستعمار الجديد يُعيد كتابة التاريخ، ويُعيد برمجة العقول.
أما الإعلام، فغالبًا ما يكون مرآة للنخب، أو تابعًا لجهات خارجية عبر التمويل أو الخط التحريري.
مقاومة الاستعمار الجديد: هل من أفق؟
المعركة مع الاستعمار الجديد ليست معركة بنادق، بل معركة وعي.
ولذلك، تبدأ المقاومة من:
- استرداد السيادة الاقتصادية
- إصلاح التعليم من الجذور
- بناء إنتاج ثقافي مستقل
- تشجيع الصناعات المحلية
- تحصين الإعلام من الهيمنة
- تجديد النخب السياسية والفكرية
الأمر يحتاج إلى تحالف بين المثقفين، الاقتصاديين، المشرعين، والشعوب نفسها.
استعمار لا يُرى، لكن يُعاش
الاستعمار الجديد خطير لأنه غير مرئي، غير معلَن، بلا طائرات ولا مدافع، لكنّه حاضر في وجبة الغذاء، في مشهد المسلسل، في قرار الحكومة، في ديكور المدينة.
هو استعمار لا يشعر الناس بوجوده، لكنهم يدفعون ثمنه كل يوم: من فقر، وتبعية، وتشظّي في الهوية.
ولعلّ السؤال الأصعب الذي نواجهه اليوم ليس: “كيف نُحرَّر الأرض؟”
بل: “كيف نُحرِّر القرار؟ وكيف نُحرّر الوعي؟”