البروباغندا: آلة السيطرة الناعمة وسلاح النفوذ الأيديولوجي
بقلم: آية علي الزين
مقدّمة:
في عالم مشبع بالتقنيات الإعلامية والانفجار المعلوماتي، لم تعد الحروب تُخاض بالسيوف والدبابات فقط، بل بالكلمات والصور، بالخطاب المحكم والنغمة العاطفية المُوجهة. ومن بين أخطر الأسلحة الناعمة التي تحكم قبضتها على الوعي الجمعي وتُعيد تشكيل العقول والمواقف، تقف “البروباغندا”، أو ما يُعرف بالدعاية، بوصفها أداة تأثير متغلغلة، تتلاعب بالرموز والمشاعر والمضامين.
فما هي البروباغندا؟ وما جذورها التاريخية؟ كيف تطورت عبر العصور؟ وما أساليبها الحديثة؟ وما الفرق بينها وبين الإعلام أو التثقيف؟ وهل يمكن أن تكون أداة نبيلة لاختراق العقول من أجل الخير؟ أم أنّها شرٌّ محض يستوجب الحذر والمقاومة؟
أولًا: ماهية البروباغندا ومفهومها النظري
كلمة “بروباغندا” مشتقة من الفعل اللاتيني propagare، والذي يعني “ينشر” أو “يُكاثر”، وقد استخدمت أول مرة كمصطلح مؤسساتي في القرن السابع عشر ضمن جهاز تابع للكنيسة الكاثوليكية تحت اسم “Congregatio de Propaganda Fide” أي “مجمع نشر الإيمان”. غير أن المفهوم تطوّر ليأخذ لاحقًا دلالة سياسية وإعلامية ترتبط بالتأثير المقصود والموجَّه على الرأي العام.
تعريفًا، يمكن القول إنّ البروباغندا هي عملية مدروسة ومنظمة تهدف إلى التأثير في مواقف الأفراد وسلوكهم عبر وسائل الإعلام أو الاتصال الجماهيري، باستخدام رسائل متحيزة وموجَّهة ومكرّرة لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية.
ثانيًا: البروباغندا في التاريخ: من الإغريق إلى الحرب الباردة
ليست البروباغندا حديثة النشأة؛ فقد استخدمها أفلاطون حين نظّر لـ”الأسطورة النبيلة” التي يمكن أن تُوظف لتوحيد الناس على فكرة ما. كذلك مارست الإمبراطوريات القديمة أشكالاً من البروباغندا في سرديات الفتح والنصر وتقديس الزعيم.
أما العصر الحديث، فقد شهد طفرة خطيرة في استعمال البروباغندا، خصوصًا مع الحربين العالميتين، حيث أنشأت الأنظمة المتنازعة مؤسسات إعلامية ضخمة لتشكيل الصورة الذهنية للمواطن والعدو معًا. واستُخدمت الملصقات، السينما، الخطابة الجماهيرية، والمطبوعات لتحقيق هذا الغرض.
وفي الحرب الباردة، كانت البروباغندا أحد أبرز أدوات الحرب غير المسلحة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، عبر إذاعات مثل “صوت أمريكا” و”راديو موسكو”، والسينما، والتعليم، والمناهج الدراسية.
ثالثًا: أنواع البروباغندا وأساليبها
البروباغندا لا تأتي في قالب واحد. بل تتنوّع بحسب الغرض، الجهة المُروّجة، والأسلوب. نُجمل أبرز أنواعها فيما يلي:
1. البروباغندا البيضاء
وتُظهر فيها الجهة المُرسِلة لهويتها ومصادرها بوضوح، مثل الحملات الرسمية الحكومية.
2. البروباغندا السوداء
وتُخفي مصدرها أو تنسب نفسها إلى جهات وهمية لخداع الجمهور، وهي الأخطر في حالات الحروب والصراعات.
3. البروباغندا الرمادية
لا تُحدد بدقّة مصدرها، وتُمرَّر بطرق غير مباشرة.
أما أساليبها فمتعددة، نذكر منها:
- التكرار: تكرار الرسالة يرسّخها في الوعي، ولو كانت كاذبة.
- التضليل بالمعلومات الجزئية: قول نصف الحقيقة لإخفاء نصفها الآخر.
- إثارة العواطف: اللعب على مشاعر الخوف، الأمل، الغضب.
- شيطنة العدو: نزع الصفات الإنسانية عنه لتبرير العداء ضده.
- اختلاق العدو الخارجي أو المؤامرة: لصرف الانتباه عن الأزمات الداخلية.
- استثمار الرموز الوطنية والدينية: لإضفاء قداسة على الرسالة الدعائية.
رابعًا: البروباغندا والإعلام: خطوط التماس والتمييز
يختلط على كثيرين الفرق بين الإعلام والبروباغندا. فبينما يهدف الإعلام إلى نقل الحقائق والمعلومات بموضوعية ومهنية، تقوم البروباغندا على توجيه الإدراك والتحكم في زاوية الرؤية للواقع، وغالبًا ما تُقصي الأصوات المعارضة.
لكن، هل الإعلام بريء دومًا؟ الواقع أن الحدود ضبابية. إذ يمكن للإعلام أن يتحوّل إلى أداة بروباغندا إذا ما تحوّل إلى بوق رسمي أو إلى سلطة رأسمالية توجّه الرأي العام لمصالحها.
خامسًا: البروباغندا الحديثة: من الدولة إلى الفرد
مع ظهور الإنترنت، شهدنا تحولًا هائلًا. لم تعد البروباغندا حكرًا على الحكومات، بل أصبحت الأفراد والمجموعات قادرة على صياغة خطاب جماهيري ضاغط، خصوصًا عبر السوشيال ميديا.
يُوظّف الذكاء الاصطناعي اليوم لصناعة محتوى دعائي موجه عبر خوارزميات تُحلل ميول المستخدم وتغذّيه بما يعزز قناعاته، مما يخلق “فقاعة إدراكية” تُقصيه عن الرأي المخالف وتزيد من التطرف والاستقطاب.
سادسًا: البروباغندا كأداة إيجابية: هل من دور نبيل؟
رغم السمعة السيئة، لا يمكن القول إن البروباغندا دائمًا شريرة. فقد استُخدمت في التوعية الصحية، حملات ضد المخدرات، التثقيف البيئي، والتعبئة ضد العنصرية. لكن المعيار الأخلاقي هنا هو الصدق، احترام عقل المتلقي، ووضوح المصدر.
خاتمة:
إنّ فهم البروباغندا ليس ترفًا معرفيًّا، بل ضرورة وجودية في عصر المعلومة السائلة والزيف المصقول. نحن أمام سلاح يتسلّل إلى العقل عبر الكلمة واللون والنغمة، ويُعيد تشكيل الرأي والسلوك من حيث لا ندري.
إنّها ليست فقط أداة للسلطة، بل أصبحت ثقافة وسلاحًا بيد الجميع، وعلينا أن نكون، كجمهور وكمثقفين وإعلاميين، على درجة عالية من الوعي النقدي لفك شيفرات الخطاب الذي يوجّهنا دون أن نعي ذلك.