×

الحرب الباردة الجديدة: كيف تُعاد صياغة موازين القوى بين واشنطن وبكين وموسكو؟

الحرب الباردة الجديدة: كيف تُعاد صياغة موازين القوى بين واشنطن وبكين وموسكو؟

بقلم: آية علي الزين

في السنوات الأخيرة، بات واضحاً أنّ العالم لا يعيش مجرد اضطرابات سياسية عابرة، بل يشهد تحوّلاً جذرياً في بنية النظام الدولي. فبعد ثلاثة عقود من الهيمنة الأميركية شبه المطلقة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، تبرز اليوم معالم حرب باردة جديدة، لا تدور بين قوتين كما في القرن الماضي، بل بين ثلاث قوى كبرى تتنافس على النفوذ والتكنولوجيا والاقتصاد والرمزية: الولايات المتحدة، الصين، وروسيا.

هذه ليست حرب جيوش تقليدية، بل صراع متعدد الطبقات، تُستخدم فيه التكنولوجيا والتمويل والدعاية والممرات البحرية كأدوات ضغط لا تقل خطورة عن السلاح.


أولاً: نظام دولي يتفكك… ونظام جديد يولد

منذ التسعينيات وحتى العقد الأول من القرن الحالي، اعتقدت واشنطن أنّ زمن الأقطاب المتعددة انتهى إلى غير رجعة، وأنّ العالم سيبقى تحت هيمنتها السياسية والعسكرية. غير أن الواقع تغيّر بسرعة:

  1. الصين تحوّلت من “مصنع العالم” إلى لاعب استراتيجي يمتلك مشاريع عابرة للقارات (مثل “الحزام والطريق”)، وقوة تكنولوجية تهدد الريادة الأميركية.
  2. روسيا استعادت دورها التاريخي، فدخلت أوكرانيا، ووسّعت نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا، مستفيدة من ضعف أوروبا وانشغال واشنطن.

بهذا المعنى، أصبحت الولايات المتحدة أمام خصمين يرفضان القواعد التي فرضتها بعد الحرب الباردة، ويسعيان إلى إعادة تشكيلها بما يخدم مصالحهما.


ثانياً: أدوات صراع لا تقودها المدافع

مع تغيّر شكل الحروب، ظهرت أدوات جديدة تحدد موازين القوى العالمية:

1. التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي

التنافس على السيطرة على أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، بات أهم من التنافس على الغواصات والطائرات.
الصين تمضي بسرعة في تطوير منظومات رقمية عملاقة، فيما تحاول واشنطن عرقلة وصولها لأحدث الشرائح الإلكترونية.

2. الحروب الاقتصادية

العقوبات الأميركية على روسيا، والحرب التجارية المستمرة مع الصين، أثبتت أنّ الاقتصاد أصبح سلاحاً فعالاً بقدر الصواريخ.

3. العملات الرقمية للبنوك المركزية

تسعى الصين إلى تقويض هيمنة الدولار عبر “اليوان الرقمي”، بينما تعمل روسيا على أنظمة دفع بديلة لتجاوز العقوبات.
إنها لعبة إعادة تشكيل النظام المالي العالمي.

4. السيطرة على سلاسل التوريد

من المعادن النادرة إلى الطاقة والقمح، كل دولة تحاول التحكم بما يحتاجه العالم لضمان مكانة تفاوضية أقوى.

5. الإعلام وتوجيه السرديات

لم تعد الحرب الإعلامية أقل أهمية:
تنتج كل قوة روايتها الخاصة وتحاول فرضها على الرأي العام العالمي، ما يجعل المعركة على العقول أشد ضراوة من المعركة على الأرض.


ثالثاً: ساحات الاشتباك غير المباشرة

الحرب الباردة الجديدة لا تُعلن رسمياً، لكنها تتجسّد في ساحات ساخنة:

1. أوكرانيا

هي الحدّ الفاصل بين مشروع روسي يريد التمدد ومشروع غربي يريد الاحتواء.

2. تايوان

النقطة الأكثر حساسية للصين، وخط أحمر قد يشعل مواجهة عالمية.

3. الشرق الأوسط

من غزة إلى الخليج وحتى البحر الأحمر، المنطقة تتحول إلى ساحة تأثير متشابك، تستخدم فيها القوى الكبرى الوكلاء والملفات الأمنية والطاقة.

4. أفريقيا

مسرح تنافس اقتصادي—الصين بالبنى التحتية، روسيا بالأمن، والغرب بالتمويل.


رابعاً: الدول الصغيرة بين الاصطفاف والحياد الذكي

هنا يبرز سؤال بالغ الأهمية:
كيف تتعامل دول صغيرة أو متوسطة مثل لبنان مع تحولات بهذا الحجم؟

ليس سهلاً على دول المنطقة أن تبقى خارج الصراع. فالشرق الأوسط واحد من أهم مسارح النفوذ العالمي، والجغرافيا تلعب دوراً حاسماً في القرار السياسي.
لكن يمكن اعتماد ما يسمى الحياد الذكي: أي الاستفادة من الجميع دون الانجرار إلى محور مغلق، وتجنب الاصطفاف الذي قد ينعكس اقتصادياً وسياسياً بشكل خطير.


خامساً: السيناريوهات المستقبلية… إلى أين يتجه العالم؟

تطرح المرحلة الحالية مجموعة سيناريوهات محتملة:

1. استمرار الصراع دون انفجار

وهو الأقرب اليوم: مواجهات اقتصادية وتكنولوجية ودعاية، دون حرب مباشرة بين القوى الثلاث.

2. ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب

حيث تتراجع الهيمنة الأميركية، وتتحول الصين وروسيا إلى قوى مساوية، مع صعود قوة إقليمية مثل الهند.

3. أزمة مالية عالمية تُعيد رسم التحالفات

خاصة إذا تمكّنت الصين من تحدي الدولار عبر عملتها الرقمية.

4. احتمال الانزلاق إلى مواجهة عسكرية محدودة

حول تايوان أو بحر الصين الجنوبي، لكنها تبقى مخاطرة عالية للجميع.


تبدو الحرب الباردة الجديدة أكثر تعقيداً من الحرب الماضية، لأن أدواتها متغيّرة، وساحاتها متعددة، ونتائجها ستنعكس على كل دولة مهما كان حجمها.
في عالم يتغير بهذه السرعة، لم يعد السؤال: من ينتصر؟
بل أصبح: من يستطيع التكيّف؟
ومن يملك القدرة على قراءة التحولات بذكاء، سيملك مفاتيح المستقبل.

اعلامية وباحثة في مجال الإعلام، حاصلة على درجة الماجستير في الإعلام والتواصل الجماهيري والدراسات السينمائية. متخصصة في تفكيك البروباغندا وكشف أبعادها الأيديولوجية. ومؤسِّسة مجلة "فكر وخبر". تهتم بالكتابة في قضايا السياسة والفكر والثقافة والإعلام.