×

الحرية كسلعة: كيف تُباع القيم في السوق الليبرالي؟

الحرية كسلعة: كيف تُباع القيم في السوق الليبرالي؟

بقلم: آية علي الزين

في عالم باتت فيه القيم تُعرض على رفوف الأسواق، وتُسوَّق كما تُسوَّق السلع الاستهلاكية، تبرز الحاجة الملحة إلى تفكيك خطاب “الحرية” كما يُصدَّر لنا من مراكز القوة العالمية، لا سيما من الدول الغربية التي تتربع على عرش النظام الليبرالي العالمي. بات من الضروري مساءلة هذا الخطاب، لا بوصفه دعوة خيّرة إلى إنقاذ الشعوب، بل كأداة إيديولوجية تُستخدم لتبرير التوسع، وفرض الهيمنة، وإعادة إنتاج علاقات القوة بين المركز والهامش، بين الشمال والجنوب، بين المُستعمِر والمُستعمَر الجديد.

الحرية كمنتج سياسي وثقافي

ليست “الحرية” في الخطاب الليبرالي الحديث مجرّد قيمة أخلاقية أو حق إنساني، بل أصبحت علامة تجارية تحمل مضمونًا سياسيًا واقتصاديًا محمّلاً بمصالح الدول المهيمنة. في لحظة تاريخية فاصلة، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وتفرد النموذج الرأسمالي الليبرالي بالساحة العالمية، تم تحويل “الحرية” إلى أداة للضبط والتحكم، لا للتحرير الفعلي.

في هذا السياق، لم تعد الحرية تُفهم بوصفها قدرة الإنسان على الاختيار الواعي، بل غدت مرادفًا لاستهلاك بلا حدود، ولخضوع لأنماط حياة محددة تُعرض بوصفها النموذج الأمثل للعيش. أنت حرّ، فقط إذا كنت تستهلك، وتنتج، وتؤمن بالفردانية المطلقة، وترفض أي نمط اجتماعي أو سياسي لا يتماشى مع قوالب الحداثة الغربية.

تدخلات إمبريالية تحت غطاء “الحرية”

لطالما استخدمت القوى الغربية مفاهيم مثل “الحرية” و”الديمقراطية” كذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى. من العراق إلى أفغانستان، ومن ليبيا إلى سوريا، شكّلت سردية “تحرير الشعوب من الطغيان” غطاءً ناعمًا لتدخلات عسكرية واقتصادية مدمّرة. تم تسويق هذه الحروب على أنها مساعٍ نبيلة لإنقاذ الشعوب من القمع، بينما الحقيقة تكشف عن مصالح نفطية، جيوسياسية، واستراتيجية، تحرّكها مراكز القرار في واشنطن ولندن وباريس.

الخطير في هذا التوظيف هو تسليع المعاناة البشرية، حيث تصبح معاناة النساء، أو ضحايا الاستبداد، مجرد أدوات دعائية تُستخدم في صناعة الرأي العام العالمي، لتبرير التدخلات، وقلب الأنظمة، وزعزعة الاستقرار.

الإعلام: الترويج للحرية كسلعة مرغوبة

يلعب الإعلام الغربي دورًا محوريًا في تسويق هذه النسخة المشوّهة من الحرية. فالشاشات الناطقة بالإنجليزية، والمدعومة من كبرى المؤسسات الرأسمالية، تروّج لقيم محددة بوصفها القيم العالمية الوحيدة القابلة للعيش. كل من يعارضها يُصنّف ضمن خانة الرجعية، أو الإرهاب، أو الطغيان. هكذا يتحول الإعلام إلى ماكينة ضخمة لإنتاج الإيديولوجيا، وصناعة القبول الجماهيري لسياسات الهيمنة.

في المقابل، تُشيطن أي محاولة لبناء نماذج اجتماعية مغايرة، أو الدفاع عن الخصوصيات الثقافية والهويات المحلية، بوصفها تهديدًا لـ”الحرية” و”حقوق الإنسان”، ما يجعل من الخطاب الليبرالي سيفًا ذي حدّين: يدّعي الدفاع عن الأفراد، لكنه يقمع الشعوب.

حقوق الإنسان: انتقائية في المعايير

لا يمكن الحديث عن تسليع الحرية دون التطرّق إلى المعايير المزدوجة في ملف حقوق الإنسان. فالأنظمة الغربية تغض الطرف عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان إذا كانت صادرة عن حلفاء استراتيجيين، بينما ترفع شعارات الإدانة والقلق عندما يتعلق الأمر بأعداء جيوسياسيين. تتبدّل اللغة، ويتغير الموقف، بحسب المصالح لا المبادئ.

وهكذا، تصبح الحقوق أداة ضغط سياسية لا مبدأ أخلاقيًا. وتُستخدم المؤسسات الدولية، من مجلس الأمن إلى منظمات المجتمع المدني المدعومة غربيًا، كأدوات في هذه اللعبة الكبرى.

ما بعد الاستعمار: حرية شكلية وتبعية بنيوية

حتى بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية المباشرة، لم تحصل العديد من الدول النامية على استقلال فعلي. بل تم استبدال الاستعمار العسكري باستعمار اقتصادي وثقافي ومعرفي. تُفرض على هذه الدول شروط اقتصادية مجحفة عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتُجبر على تبني نماذج ليبرالية لا تتناسب مع بنيتها الاجتماعية والثقافية.

بل أكثر من ذلك، يتم تحويل “الحرية” إلى سلعة تُباع عبر الإعلانات، والأفلام، والبرامج التعليمية، والتمويل المشروط. هكذا تُزرع في عقول الأجيال الجديدة قناعة بأن لا حياة خارج النموذج الغربي، ولا كرامة خارج السوق الليبرالي، ولا حرية إلا تلك التي يعرّفها الآخر.

نحو استعادة المعنى الحقيقي للحرية

إن مواجهة هذا الخطاب لا تتطلب فقط فضح ازدواجيته، بل إعادة تعريف “الحرية” من منظور شعبي محلي، ينطلق من تجارب الشعوب، لا من نظريات تصاغ في مراكز الأبحاث الغربية. الحرية الحقيقية تبدأ من قدرة المجتمعات على تقرير مصيرها، والتحرر من كل أشكال التبعية، لا فقط من قبضة الديكتاتور المحلي.

نحتاج إلى حرية تحترم الخصوصيات، وتتيح التعدد، ولا تُفرض من الخارج بل تُبنى من الداخل. حرية تقرأ التاريخ، وتفهم الجغرافيا، وتحترم الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًا لا مجرد مستهلك في سوق مفتوح.

في النهاية، إن لم نفكك الخطاب الذي يبيعنا قيمًا مغلفة بورق الحرير، بينما يُخفي خلفه خناجر التدخل والنهب، سنبقى أسرى نسخ مزيفة من الحرية، لا تفتح أبواب النور، بل تسدّ منافذ الأمل.

يضم فريق "فكر وخبر" مجموعة من الصحفيين والمحررين المهتمين بتقديم محتوى إعلامي احترافي، يعتمد على الدقة، والتحليل، والطرح الموضوعي للأحداث المحلية والعالمية.