×

الخطاب الإعلامي في الحروب: كيف يُصنع الرأي العام؟

الخطاب الإعلامي في الحروب: كيف يُصنع الرأي العام؟

بقلم: آية علي الزين

لم تكن الحروب، على مرّ التاريخ، مجرد مواجهات عسكرية تُحسم في ساحات المعارك وحدها. فالنصر لم يعد يُقاس فقط بعدد الدبابات والطائرات، بل بمدى القدرة على كسب عقول الجماهير والتأثير في وجدانها. في زمن الإعلام، صارت الشاشة لا تقل خطورة عن المدفع، والمايكروفون لا يقل تأثيرًا عن المدفعية الثقيلة. من هنا يكتسب الخطاب الإعلامي في الحروب مكانة استراتيجية باعتباره “الجبهة الخفية” التي تُصاغ فيها السرديات وتُصنع بها الحقائق.

الإعلام كسلاح ناعم

الحرب ليست مجرد صراع على الأرض، بل هي أيضًا صراع على المعنى. والإعلام هو الوسيلة التي تُشكَّل من خلالها صورة الصديق والعدو، ويُعاد رسم حدود الخير والشر. فعبر الأخبار العاجلة، والتقارير الميدانية، والبرامج الحوارية، تُبنى في أذهان المتلقين رواية متكاملة قد تبتعد كثيرًا عن الواقع، لكنها تُقدَّم على أنها الحقيقة المطلقة.
لقد أدركت القوى الكبرى أن السيطرة على الرأي العام لا تقل أهمية عن السيطرة على الأرض. ففي حرب فيتنام مثلًا، لم يكن الانسحاب الأميركي نتيجة هزيمة عسكرية مباشرة بقدر ما كان ثمرة لهزيمة إعلامية وصورة سلبية متعاظمة في الإعلام العالمي.

صناعة العدو وصناعة البطل

يقوم الخطاب الإعلامي الحربي عادة على ثنائية بسيطة وفعّالة: العدو والذات. العدو يُصوَّر في الإعلام باعتباره همجيًا، متوحشًا، يهدد القيم والإنسانية، بينما تُقدَّم الذات – سواء كانت دولة أو تحالفًا – بوصفها حامية للحرية، حاملة لقيم العدالة، أو مدافعة عن المستضعفين.
هذا النمط ليس جديدًا، فقد استُخدم بكثافة في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ففي الدعاية البريطانية ضد ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، صُوِّر الألمان على أنهم “برابرة” لا يتورعون عن قتل الأطفال. وفي المقابل، تمجّد الصحف البريطانية صورة الجندي البريطاني باعتباره فارسًا أبيض يحارب من أجل الإنسانية.

الإعلام والدعاية الحديثة

مع تطور وسائل الاتصال، انتقلت الحرب الإعلامية من النشرات المطبوعة والملصقات الدعائية إلى شبكات التلفزيون العالمية ثم إلى المنصات الرقمية. وخلال حرب الخليج الثانية (1991)، ظهر لأول مرة مفهوم الحرب المتلفزة. كانت شبكة CNN تقدم للعالم صورًا حية للقصف على بغداد، مما منح الإعلام سلطة غير مسبوقة في تشكيل الإدراك الجمعي. ومنذ ذلك الحين، بات يُقال إن الحروب لم تعد تُدار فقط في غرف العمليات العسكرية، بل أيضًا في استوديوهات الأخبار.
أما اليوم، فقد دخلت وسائل التواصل الاجتماعي على الخط، لتصبح ساحات افتراضية لتبادل الروايات. فالحرب في أوكرانيا مثلًا لم تُخض فقط على الأرض، بل أيضًا على تويتر وتيك توك، حيث تسابقت الأطراف المتنازعة على نشر مقاطع فيديو وصور تزرع صورة محددة في أذهان الجماهير العالمية.

تقنيات التأثير والإقناع

يعتمد الخطاب الإعلامي في الحروب على جملة من الاستراتيجيات البلاغية والنفسية، أبرزها:

  1. التكرار: إعادة بث الشعارات والعبارات المفتاحية لترسيخها في ذهن المتلقي.
  2. العاطفة: استدعاء صور الأطفال الضحايا أو اللاجئين لإثارة التعاطف، أو صور الدمار لإثارة الغضب.
  3. الانتقائية: اختيار مشاهد محددة وإغفال أخرى لخلق صورة منحازة.
  4. الخبر العاجل: الذي يمنح الإحساس بالإلحاح والخطر الداهم، مما يدفع الجمهور إلى التفاعل السريع دون تمحيص.
  5. التأطير (Framing): وضع الأحداث في سياق معين يجعل المتلقي يراها من زاوية محددة مسبقًا.

الإعلام كساحة معركة أخلاقية

يبقى السؤال الأهم: هل يمكن للإعلام أن يكون محايدًا في أوقات الحروب؟ الواقع يُظهر أن الحياد الكامل يكاد يكون مستحيلًا، إذ إن كل مؤسسة إعلامية تقع، بشكل أو بآخر، تحت تأثير أجندة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. ومع ذلك، يظل هناك فارق بين الإعلام الذي يكتفي بنقل المعلومات مع مراعاة المهنية، والإعلام الذي ينخرط في صناعة الأكاذيب وتضليل الرأي العام.
ومن هنا، فإن الوعي النقدي للجمهور يصبح ضرورة قصوى. فالمتلقي ليس متفرجًا سلبيًا، بل هو جزء من المعركة، إذ يُطلب منه أن يصدّق أو يرفض، أن يتبنى رواية أو يقاومها.

الحرب على العقول

يمكن القول إن الخطاب الإعلامي في الحروب لم يعد مجرد انعكاس للمعارك، بل صار جزءًا من استراتيجيتها. إنه حرب موازية، تستهدف العقل قبل الجسد، والوعي قبل الحدود. ففي زمن تتداخل فيه الحقيقة مع التضليل، يصبح الرهان الأكبر هو على من يملك القدرة على صياغة الرواية الأقوى، لا على من يطلق القذيفة الأشد.
إنه صراع على الذاكرة والتاريخ والمعنى، حيث لا يُحسم النصر في ساحة المعركة فحسب، بل في ساحة الوعي الإنساني أيضًا.

اعلامية وباحثة في مجال الإعلام، حاصلة على درجة الماجستير في الإعلام والتواصل الجماهيري والدراسات السينمائية. متخصصة في تفكيك البروباغندا وكشف أبعادها الأيديولوجية. ومؤسِّسة مجلة "فكر وخبر". تهتم بالكتابة في قضايا السياسة والفكر والثقافة والإعلام.