السينما لم تعد كما كانت… من الشاشة الكبيرة إلى “التيك توك”: كيف تغيّر الذوق الفني في زمن السرعة؟
بقلم: آية علي الزين
في زمنٍ لم يكن فيه سوى شاشة واحدة مضاءة وسط عتمة الصالة، حيث تختلط أنفاس الجمهور بصوت بكاء طفل في زاوية ما، وضحكة خافتة من عاشقَين في منتصف الصف، كانت السينما سيّدة المشهد. كانت الشاشة الكبيرة معبدًا ثقافيًا، يُنصِت إليه الجمهور بإجلال، وتُعلَّق عليه الأحلام، وتُبنى عبره الذاكرة الجمعية للأجيال. لكن شيئًا ما تغيّر. فجأة، تراجعت الأضواء، انحنى الصالة، وسقطت الشاشة، لتحلّ محلها شاشات مضيئة أصغر من راحة اليد. من السينما إلى “التيك توك”، ما الذي حدث؟
انهيار المعبد: أفول عصر الصالة
في العقدين الماضيين، شهدت صالات السينما في العالم، وفي عالمنا العربي خصوصًا، تراجعًا ملحوظًا في الإقبال الجماهيري. لم يعد ارتياد السينما طقسًا أسبوعيًا، ولا حتى شهريًا. فمع تحوّل المنصات الرقمية إلى البديل الأسرع والأرخص، انكمشت السينما إلى مجرّد “خيار من ضمن خيارات” ترفيهية كثيرة متاحة على بُعد نقرة.
لكن الأمر أعمق من مجرد تغيّر وسيلة العرض. نحن أمام تحوّل ثقافي، بل زلزلة في الذوق العام. لم يعد الجمهور يبحث عن دراما تمتد لساعتين ونصف، ولا عن تصوير سينمائي معقّد، أو رمزية جمالية تحتاج إلى تأمل. بل بات ينجذب إلى مقاطع لا تتجاوز الدقيقة، مكثفة، مباشرة، “مسلّية”، وقابلة للمشاركة والتكرار.
“تيك توك” وأخواته: الموجة التي اجتاحت الوعي البصري
إن المنصات القصيرة كـ”تيك توك” و”ريلز إنستغرام” و”شورتس يوتيوب” لا تروّج فقط لمحتوى سريع، بل تعيد تشكيل كيفية تلقّينا للفن والمعنى. فهي تزرع في المتلقي قابلية جديدة: التفاعل اللحظي، المتعة الفورية، والتخلي السريع. وفي ظل هذا المشهد، تبرز تساؤلات حرجة: هل لا يزال للسينما دور في زمن الـ”سوايب”؟ هل تخلّى الجيل الجديد عن عمق الفن لصالح “ترندات” لحظية؟ أم أن السينما أخفقت في مواكبة نبض العصر؟
تحوّلات الذوق: بين النخبة والشارع
في الماضي، كانت السينما وسيلة للتنوير، ومحرّكًا للنقاش الاجتماعي والسياسي. كانت أفلام يوسف شاهين، محمد ملص، أو عاطف الطيب تصنع رأيًا عامًا. اليوم، المحتوى الذي يُشاهَد أكثر هو ذاك الذي يُنتَج بأقل تكلفة، ويُستهلك بسرعة، ويُنسى بعد لحظات.
ليس الحديث هنا عن “انحطاط الذوق العام” كما يحلو للبعض أن يردّد بنخبوية. بل نحن أمام تحوّل حقيقي في آليات الاستهلاك الثقافي. الجمهور لم يصبح أكثر سطحية، بل أصبح أكثر انتقائية، لكنه يطلب محتوى يواكب إيقاع الحياة الجديد: سريع، مباشر، لا يفرض عليه الجلوس لساعتين في صالة مغلقة.
هل انتهت السينما أم أنها تعيد اختراع ذاتها؟
المخرجون الكبار لم يقفوا مكتوفي الأيدي. فها هو مارتن سكورسيزي ينتج أفلامه لمنصة “نتفلكس”، وكريستوفر نولان يصارع من أجل الحفاظ على روح الشاشة الكبيرة. أما في العالم العربي، فالأزمة أعمق: قلة التمويل، ضعف التوزيع، وتراجع الذائقة الجماهيرية تدفع السينما إلى حافة الاحتضار.
لكن، ثمة بارقة أمل. فصنّاع محتوى جدد بدأوا باستخدام أدوات الـ”تيك توك” لصنع أفكار بصرية مبتكرة. البعض يستخدم المدة القصيرة لإنتاج سينما متمردة، كثيفة، وجريئة في المضمون. ما يشي بأن المعركة ليست بين “السينما” و”المحتوى القصير”، بل بين “الفكرة” و”الفراغ”.
الجيل الجديد: ضحية أم فاعل في تغيير المعادلة؟
من السهل اتهام الجيل الجديد بأنه لا يفهم السينما، لكنه في الواقع يبحث عن لغة جديدة للفن. هو لا يرفض الدراما، لكنه يريدها بلغة بصرية سريعة الإيقاع، بعيدة عن الوعظ والخطاب المستهلك. يريد أن يرى نفسه، أسئلته، غربته، هويته الممزقة في الشاشة. فإن لم تقدم السينما له ذلك، سيبحث عنه في فيديوهات دقيقة، وإن كانت مشوشة.
كلمة أخيرة: زمن التحولات لا زمن النهايات
السينما لم تنتهِ. لكنها أيضًا لم تعد كما كانت. لقد خسرت جزءًا من جمهورها، لكنها لم تخسر معناها. ما تحتاجه هو أن تعيد اكتشاف وظيفتها، أن تُخاطب الأجيال الجديدة بلغتهم، دون أن تفقد روحها. لا أحد يطالبها بأن تنافس “الريلز”، بل أن تكون نقيضًا ذكيًا له، تقدم البديل، وتدفع بالمتلقي إلى التوقّف والتأمل، لا إلى السحب المستمر نحو المزيد.
ففي زمنٍ صارت فيه الثقافة وجبةً سريعة، تظلّ السينما ــ عندما تُحسن اختيار أدواتها ــ الوجبة المتكاملة التي لا تُشبِع فقط، بل تبقى طعمها طويلًا في الذاكرة.