العقل في حلقة الـ Overthinking: لماذا نُعيد التفكير في المواقف بلا نهاية؟
مقدمة
في زمن تتسارع فيه الأحداث ويزداد فيه الضغط النفسي والاجتماعي، أصبح الـ Overthinking أو “الإفراط في التفكير” أحد أكثر السلوكيات شيوعًا بين الناس.
نراجع رسالة قرأناها، كلمة قلناها، موقفًا حصل، ونبقى ندور في دائرة مغلقة من التحليل والتفسير. لكن لماذا نفعل ذلك؟ وهل يمكن للعقل أن يتحرر من هذه الحلقة؟
أولاً: العقل لم يُصمّم للراحة
من منظور علم النفس التطوري، العقل البشري مبرمج على التقاط التهديدات وتحليلها لحماية صاحبه.
زمانًا، كان التهديد خطرًا جسديًا… أما اليوم، أصبح التهديد اجتماعيًا:
- كيف ظهرنا أمام الآخرين؟
- ماذا قصد فلان بكلمته؟
- هل أخطأت؟
- ماذا لو…؟
هذا التحول جعل العقل يعالج المواقف اليومية وكأنها “معركة”، فيبالغ في التحليل ليتأكد أننا في أمان.
ثانيًا: وهم السيطرة
يرى علم النفس المعرفي أن الإفراط في التفكير نابع من إحساس داخلي بأننا سنصل للحل عبر إعادة الموقف مرارًا.
لكن الحقيقة أن الـ Overthinking يعطي إحساسًا زائفًا بالسيطرة، بينما واقع الأمر أن:
- الموقف انتهى.
- الشخص الآخر ربما لا يفكر بنا إطلاقًا.
- التفكير لا يغيّر الماضي.
ومع كل دورة تفكير جديدة، يدخل العقل في حلقة اجترار تجعل الموقف أكبر بكثير من حجمه الحقيقي.
ثالثًا: كيف يضرّ الإفراط في التفكير بصحتنا؟
الأبحاث تشير إلى أن الـ Overthinking مرتبط بـ:
1. ارتفاع هرمون التوتر (الكورتيزول)
ما يؤدي إلى سرعة ضربات القلب، صعوبة النوم، وقلق دائم.
2. ضعف التركيز واتخاذ القرار
لأن الفص الجبهي – المسؤول عن التفكير المنطقي – يصبح مُجهدًا.
3. تضخيم المواقف البسيطة
فيتحوّل موقف عادي إلى أزمة نفسية طويلة.
4. تراجع الثقة بالنفس
كلما زاد التفكير، يشعر الشخص أنه ارتكب خطأ ما، حتى لو لم يفعل.
رابعًا: لماذا يرتبط الـ Overthinking بالعلاقات؟
أكثر مكان يظهر فيه الإفراط في التفكير هو العلاقات الإنسانية، لأن العلاقات تحمل:
- توقعات
- مشاعر
- خوف من فقدان الآخر
- حساسية الكلام والتصرفات
لذلك يتساءل العقل باستمرار:
“هل كان قصده هيك؟”
“هل زعل؟”
“هل المفروض أبادر؟”
لكن غالبًا تكون هذه الأسئلة انعكاسًا لقلق داخلي… لا لحقيقة فعلية.
خامسًا: كيف نخرج من الحلقة؟ (أساليب عملية)
1. إعادة التسمية
بدل: ليش هيك صار؟
قولي للعقل: “هاي فكرة، مش حقيقة.”
بهذه الجملة، يتوقف الدماغ عن التعامل مع الفكرة كحدث حقيقي.
2. تحديد وقت للتفكير
20 دقيقة يوميًا فقط لمعالجة المشكلة، وبعدها يُمنع التفكير فيها.
هذه تقنية مثبتة في العلاج المعرفي السلوكي.
3. الانتقال من التفكير إلى الفعل
إذا كان في شي بينحل، نعمله.
وإذا ما بينحل… التفكير لن يفيد.
4. قاعدة 5-5-5
اسألي نفسك:
- هل هذا الشي رح يهمّ بعد 5 أيام؟
- أو 5 شهور؟
- أو 5 سنين؟
غالبًا… الجواب: لا.
5. الانشغال الواعي
المشي، الكتابة، العمل، قراءة شيء ممتع — أي نشاط يسحب الدماغ من الحلقة.
خاتمة
الـ Overthinking ليس ضعفًا ولا صفة سيئة، بل هو رد فعل طبيعي لعقل يحاول أن يحميك.
لكن عندما يتحوّل هذا التفكير إلى دائرة مغلقة، يصبح من الضروري استعادة السيطرة.
الهدوء لا يأتي من “التأكد من كل شيء”، بل من قبول أن بعض الأمور لا يمكن السيطرة عليها.
وحين نصل لهذه المرحلة، يصبح العقل أصفى، والمواقف أخفّ، والحياة أسهل.


