الفشل… صديقي العزيز
بقلم: عامر محمد الرفاعي
لم يكن الفشل يومًا ضيفًا خفيف الظل، ولا زائرًا مرحبًا به في مضارب الطموح. بل هو ذاك الغريب الذي يطرق بابك دون موعد، يدخل دون إذن، ويترك خلفه فوضى من الأسئلة والخذلان والوجع. ومع ذلك، أكتشف، كلما تقدم بي العمر، أنه لم يكن يومًا عدوًّا حقيقيًا. بل كان معلمًا متنكرًا، يلقنني الدروس التي لا يتسع لها النجاح، ويقودني نحو مسارات لم أكن لأراها في زحمة التصفيق.
الفشل: أول الحكاية
في المجتمعات التي تقدّس النجاح وتعلّق أوسمته على صدور المتفوقين، يُعامل الفشل كوصمة، كعار ينبغي ستره، أو كحالة مرضيّة تستوجب الشفاء منها في أسرع وقت. نُربّى على الخوف من الوقوع، نخشى الرسوب أكثر مما نخشى الجهل، ونفضّل البقاء في دائرة الأمان الضيّقة على أن نخاطر بتجربة قد لا تكلّل بالنجاح.
لكن الحقيقة، وهي قاسية في بدايتها، أن الفشل هو أول علامات الحياة. أول خطوة يخطوها طفل لا تكون إلا مصحوبة بالسقوط. أول كلمات ننطقها تأتي متعثرة، مشوّهة، حتى نتمرّس على النطق. بل حتى القلب، ذلك العضو النابض، يتعلّم إيقاعه من خلال الخفقان غير المنتظم في بدايات الحياة. لولا الفشل، لما تعلّمنا شيئًا. ولو وُلدنا متقنين لكل شيء، لانعدمت الحاجة إلى التعلّم، وذبلت أرواحنا في راحة قاتلة.
حين يصبح الفشل معلّمًا
في كل محطة فشل مررت بها، كانت هناك نافذة مفتوحة لم أنتبه لها إلا لاحقًا. لم أفهم ذلك حين خسرت أول فرصة عمل تمنّيتها بشدة، ولا حين رُفض نص كتبته بجهد ليُنشر في منبر أحبه. لم أفهم حينها أن تلك الرفضات لم تكن سوى إشارات، لا لتعيد توجيهي فقط، بل لتربيني. الفشل يربّينا. نعم، يعلّمنا التواضع، ويكسر فينا وهم الاستحقاق المطلق، ويزرع فينا شجرة الصبر، ويمنحنا أدوات النقد الذاتي، التي لا يمنحها النجاح بسهولة.
لقد تعلّمت من فشلي أن النجاح، في كثير من الأحيان، لا يُقاس بالنتائج فقط، بل بالتحوّل الذي يحدث داخلنا. كيف نصبح أكثر صلابة، أكثر وعيًا، أكثر شجاعة. كم من أناس لم يعرفوا طعم الانتصار، لكنهم أنضج من أولئك الذين لم تُصفعهم الحياة يومًا.
الثمن الذي لا يراه أحد
الفشل ليس رومانسيًا كما نحاول أن نجمّله. إنه مؤلم، مرير، يسحق الكبرياء، ويبعثر الأمنيات. لكن من قال إن النموّ يأتي بلا ثمن؟ من قال إن النضج لا يمرّ عبر جراح؟ لقد صار الفشل صديقي العزيز، لا لأنه لطيف، بل لأنه صادق. لا يخدعك، لا يُجمّل الحقيقة، لا يمنحك المجاملات الفارغة. هو مرآة قاسية، لكنها حقيقية.
كل نجاح حقيقي، في نظري، يُبنى فوق ركام محاولات فاشلة. الذين نراهم اليوم في القمم، ما وصلوا إليها لأنهم كانوا عباقرة بالولادة، بل لأنهم لم يستسلموا حين طرق الفشل أبوابهم. لأنهم آمنوا بأنّ الوقوع لا يُفقدهم القيمة، بل يمنحهم الفرصة لإعادة التشكّل.
ثقافة الفشل: ما نحتاجه بشدة
ما أحوجنا اليوم إلى إعادة تشكيل خطابنا عن الفشل. أن نربّي أبناءنا على أن الفشل ليس عيبًا، بل مرحلة. أن نزرع فيهم الجرأة على المحاولة لا الخوف من الخطأ. أن نحتفي بمحاولاتهم لا فقط بنتائجهم. أن نمنحهم المساحة الكافية ليخوضوا التجارب، ويقعوا، ويقوموا من جديد، دون أن يشعروا بأنهم خذلونا أو خذلوا أنفسهم.
إن أكبر خسارة يمكن أن نتعرض لها ليست في الفشل ذاته، بل في خوفنا منه. الخوف من الفشل هو الذي يجعلنا نختار الوظائف الآمنة، لا التي نحبها. هو الذي يمنعنا من بدء مشروع نحلم به. هو الذي يجعلنا نتردد في البوح، في المغامرة، في اتخاذ القرار. الفشل، في حد ذاته، ليس قاتلًا. لكن الخوف منه يقتل الروح.
لست عدوّي
يا فشلي العزيز…
كم كنتُ أكرهك، وأهرب منك، وأتظاهر بأنني لم أعرفك يومًا. وكم كنتُ غافلة عن كونك أنت الذي منحني أعظم الدروس. اليوم، وأنا أكتب لك، لا أكتب من موضع المنتصر عليك، بل من موضع من تعلّم أن يحتضنك حين تأتي، ويصغي لك حين تتكلم، ويأخذ بيدك لا ليطردك، بل ليسير معك نحو ما هو أجمل.
فشلي…
لست عدوّي.
بل كنت دومًا، رغم كل شيء، صديقي العزيز.