النيوليبرالية: الاستعمار الجديد بوجه اقتصادي وأدوات ناعمة
بقلم: آية علي الزين
في القرن الحادي والعشرين، لم تعد الدبابات هي من تحتل الشعوب، بل القروض، والخصخصة، والتبادل الحر، والعولمة المفروضة. تحوّل الاستعمار من مشروع سياسي وعسكري مباشر إلى منظومة اقتصادية محكمة تُعيد إنتاج التبعية بأدوات “عقلانية” و”علمية”، لا تُطلق رصاصة واحدة، لكنها تصيب المجتمعات في عمق سيادتها وقدرتها على القرار.
النيوليبرالية – هذا المصطلح الذي يختبئ خلف لغة السوق والانفتاح والتطور – ليست سوى امتداد ناعم، لكنه فعّال، لمنطق استعماري قديم، تغيّرت أدواته، لكن أهدافه الجوهرية لم تتبدّل: السيطرة.
النيوليبرالية… ما هي فعلًا؟
النيوليبرالية ليست مجرد سياسات اقتصادية تروّج للخصخصة، تقليص دور الدولة، حرية الأسواق، والانفتاح على التجارة العالمية. بل هي أيديولوجيا متكاملة، تقدم نفسها كـ”الحقيقة الوحيدة” للحياة الاقتصادية، وتزعم أنها الطريق الحتمي إلى التقدم.
لكن خلف هذا القناع، تختبئ رغبة حثيثة لتقويض السيادة الوطنية وتحويل الدول – خاصة الضعيفة منها – إلى أسواق مفتوحة تستقبل السلع، تستدين بفوائد مركبة، وتُدار وفق مصالح رأس المال العالمي.
صندوق النقد الدولي والبنك الدولي: أدوات استعمار معولم
منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت موجات من “الإصلاحات الهيكلية” تجتاح الدول النامية بقيادة مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذه الإصلاحات، التي تُقدّم كعلاج اقتصادي، تأتي مشروطة بإعادة هيكلة اقتصادات الدول، غالبًا وفق قالب نيوليبرالي صارم:
- خصخصة المؤسسات العامة
- رفع الدعم عن المواد الأساسية
- تحرير سعر الصرف
- فتح الأسواق أمام رؤوس الأموال الأجنبية
- تقليص حجم القطاع العام لصالح القطاع الخاص
لكن السؤال الجوهري هو: من يستفيد فعليًا من هذه السياسات؟
هل هي الشعوب؟ أم الشركات العابرة للقارات التي تدخل السوق الوطني لتشتري “مؤسسات الدولة” بأثمان بخسة وتحوّل الخدمات إلى سلع لا تطالها الطبقات الفقيرة؟
استعمار بلا احتلال: كيف تُدار الدول من الخارج؟
في ظل النيوليبرالية، تفقد الدول المستضعفة قدرتها على التخطيط الحر والمستقل. فالموازنات العامة تُعدّ وفق توصيات صندوق النقد، وقرارات رفع الأسعار وفرض الضرائب تُبرَّر بأنها “ضرورات إصلاح”، والقطاعات الحيوية – من التعليم إلى الصحة – تتحوّل إلى مشاريع مربحة لشركات دولية.
هنا، لا حاجة لجنرال أجنبي ليحكم البلاد. هناك خبراء ماليون، ومبعوثون دوليون، وتقارير اقتصادية تحدد ما يجب فعله وما لا يجب.
والأسوأ من ذلك، أن هذه القرارات تُسوَّق داخليًا بأنها “من أجل مصلحة الوطن”، في حين أن مَن يدفع الثمن هو المواطن، خصوصًا الفقير.
الاستعمار الاقتصادي وأزمة العدالة الاجتماعية
النيوليبرالية لا تُنتج فقط تبعية سياسية واقتصادية، بل أيضًا هشاشة اجتماعية شديدة. فمع كل خصخصة لمرفق عام، يُقصى جزء من المجتمع عن حقه في الخدمة. ومع كل انفتاح للأسواق، تُدمَّر الصناعات المحلية، وتُستبدل بزحف سلع أجنبية. ومع كل قرض جديد، يُحمَّل الشعب عبء سداد لا يخصّه أصلًا.
بالتالي، نحن أمام نموذج اقتصادي ينتج فقرًا، ويعزز الفوارق الطبقية، ويعيد إنتاج علاقات المركز والهامش، لكن من داخل الحدود الوطنية. وهذا بحد ذاته أخطر من الاستعمار القديم، لأنه لا يأتي من خارج الوطن فحسب، بل يتواطأ معه الداخل أحيانًا.
مقاومة الاستعمار الاقتصادي: هل من أفق بديل؟
السؤال الآن ليس فقط عن توصيف المشكلة، بل عن إمكانات التحرر منها. المقاومة تبدأ أولًا بفك الارتباط الذهني مع النيوليبرالية كقدر محتوم.
لماذا نتصور دائمًا أن الخصخصة والتقشف هما طريق الإصلاح؟
لماذا تُعتبر العدالة الاجتماعية نقيضًا للنمو، لا شرطًا له؟
ولماذا تُقدَّم المؤسسات الدولية كـ”مرشد روحي” للدول، بينما تُغرقها في دوامة من الديون؟
الخروج من هذا النفق ليس سهلًا، ولا آنيًا، لكنه ممكن. ويبدأ بإعادة تعريف ما تعنيه السيادة اليوم:
ليست فقط راية على مبنى رسمي، بل القدرة على اتخاذ قرارات اقتصادية تعكس مصالح الناس، لا مراكز المال العالمي.
في الختام: استعمار بربطة عنق
النيوليبرالية ليست غزوًا عسكريًا، لكنها أخطر منه أحيانًا. هي تدخل عبر الأرقام، وتستقر في العقول، وتُعيد هندسة أولويات المجتمعات. هي استعمار يلبس ربطة عنق ويتحدث بلغة الاقتصاد، لكنه لا يختلف كثيرًا عن من كان يركب الدبابة في زمن الاحتلال المباشر.
التحدي الحقيقي اليوم ليس فقط في التخلص من آثار الاستعمار القديم، بل في كشف وجوه الاستعمار الجديد، وتفكيك منطقه، وصياغة نموذج اقتصادي عادل، إنساني، ومنحاز للفئات المهمشة… لا للمؤسسات المالية.