الهوية في زمن المنصات: من نحن حينما نُعرّف أنفسنا عبر “البايو”؟
في زمنٍ لم يعد فيه الحضور الجسدي معيارًا وحيدًا للتعريف بالنفس، ولا الصورة كافية لتمثيلنا، بزغت ساحة جديدة نُطلّ منها على العالم، نلخص بها ذواتنا، ونضع بها ما نظنه “جوهرنا”: سطرٌ صغير يُدعى “البايو” أو “نبذة التعريف”.
فمن نكون حين نُعرّف أنفسنا بجملة من خمس كلمات؟ وكيف أعادت المنصات تشكيل هويتنا، وتحديد صورة “الذات” التي نُقدّمها للآخر؟ وهل نُعيد اختراع أنفسنا كلما أنشأنا حساباً جديداً؟
البايو: مساحة ضيّقة لتحمّل الذات الواسعة
يمنحنا “البايو” على منصات التواصل مساحة لا تتعدى غالباً 150 حرفًا، لنقول للعالم من نكون. في تلك السطور القليلة، نُضغط تجاربنا، وانتماءاتنا، ومهاراتنا، وطموحاتنا، ونُلبسها ما يشبه بطاقة هوية رقمية، ليست صادرة عن الدولة، بل عن “الذات”.
وإن دقّقنا في تلك المساحات، نكتشف أن البايو ليس مجرد وسيلة تعريف، بل هو إعلانٌ تسويقيّ لشخصية نرغب أن نبدو عليها، لا تلك التي نحن عليها بالضرورة.
هل نكذب في “البايو”؟ أم نختار أفضل نسخة منا؟
ليس الأمر كذباً، بل “تجميلٌ اختياري”، وربما “تسويق للذات” في سوقٍ باتت فيه العيون ترقب كل من يعبر. يختار البعض أن يكتب “مُنتِج محتوى” رغم أنه في بداياته، أو “كاتب”، ولو لم تُنشر له سطور. لكن في واقع المنصات، الألقاب تبدأ بالبوح لا بالمنجز، فالقول يسبق الفعل.
وهكذا، يغدو البايو تصريحًا بالنية، أو تمثيلاً للذات المُتخيلة، لا الذات الفعلية. نحن نكتب “من نريد أن نكون” لا “من نحن الآن”. وهنا يكمن جوهر التحوّل: الهُوية لم تعد ثابتة، بل سيولة اجتماعية قابلة للتشكيل.
الهوية الرقمية بين التثبيت والتغيير
في السابق، كان تعريفنا مرتبطاً بالعائلة، والحيّ، والمدرسة، والمهنة. أما اليوم، فكلما أنشأنا حسابًا، أعدنا تعريف أنفسنا. المستخدم في “لينكد إن” يبدو أكثر جدية ومهنية، وفي “إنستغرام” أكثر بساطة أو استعراضاً. أما في “تيك توك”، فقد يصبح ساخرًا أو خفيف الظل.
فهل نحن فعلاً كل هؤلاء؟ أم أن الهوية أضحت “موزعة” حسب المنصة، ولكل مقامٍ تعريف؟
“البايو” كأداة مقاومة أو تهميش
لا يخفى أن بعض المستخدمين يستخدمون البايو كوسيلة مقاومة رمزية: يكتبون ديانتهم، انتماءهم السياسي، قضاياهم التي يدافعون عنها. وآخرون يحذفون كل ما يدل على جنسهم أو هويتهم الأصلية، متعمدين التخفي أو إعادة خلق الذات في شكل أكثر قبولاً اجتماعيًا أو أماناً رقمياً.
وهكذا، فإن تعريف الذات لم يعد مجرد حق، بل صار “خياراً سياسياً” و”أداة تفاعل اجتماعي”. نحن لا نكتب البايو عبثاً، بل بوعي أو لا وعي، نرسم لأنفسنا صورة نأمل أن يُصدقها الآخرون.
من يملك تعريفنا؟ نحن أم الخوارزميات؟
قد نكتب بايو يعبر عن رؤيتنا الذاتية، لكن منصات التواصل لا تهتم إلا بما تُسجّله الخوارزميات: سلوكك، محتواك، جمهورك، تفاعلك. تعريفك الحقيقي – حسب المنصة – ليس ما تكتبه، بل ما تفعله. وقد يكون سطرك الأول “قارئ” بينما المحتوى كله مقاطع كوميدية قصيرة.
الخوارزميات لا تقرأ البايو، بل تراقبك لتقرر “من أنت” بناءً على أنماطك الرقمية.
أزمة الهوية في عصر الصورة السريعة
مع كل هذا الزخم، يُطرح سؤال جوهري: هل ضاعت الهُوية؟ أم أننا انتقلنا من “هوية راسخة” إلى “هويات متغيرة” تتماشى مع سرعة العصر وتبدل السياقات؟ هل يجب علينا أن نكتفي بتعريف واحد لأنفسنا؟ أم أن تعدد البايوهات يعكس واقعاً أكثر تعقيداً، وهو أننا – في الأصل – كائنات متعددة الجوانب والانتماءات؟
ربما الجواب الأعمق يكمن في فهم أن البايو هو “مرآة جزئية”، تعكس زاوية نختارها من ذواتنا. ولا ضير في أن نُعيد صياغتها مراراً، طالما أن العالم يتغير، ونحن معه.
إن “البايو” في زمن المنصات ليس مجرد تعريف سطحي، بل هو جزء من معركة الهوية الرقمية في عالم يتغير بسرعة هائلة. هو ممارسة اجتماعية، ثقافية، تكنولوجية، بل حتى نفسية، تختصر الذات في سطر وتفتح الباب لتساؤلات لا تنتهي: من نكون؟ ومن نظن أنفسنا؟ وماذا يرى فينا الآخرون؟
في النهاية، لا أحد يملك الحق الكامل في تعريفك… لا الدولة، ولا الأهل، ولا الخوارزمية. أنت وحدك من يستطيع أن يقول من أنت — ولو بكلمات قليلة في بايو صغير، يحتمل ذاتاً عظيمة.