تفكيك وهم التقدّم: هل تسير البشرية فعلًا إلى الأمام؟
بقلم: آية علي الزين
في الخطاب الغربي الحديث، غالبًا ما يُستحضر مصطلح “التقدّم” بوصفه مسارًا حتميًّا للبشرية؛ وكأن التاريخ خطّ مستقيم يبدأ من الجهل والتخلّف وينتهي بالعلم والرفاهية والحرية. غير أنّ السؤال الجوهري يظل قائمًا: هل نحن فعلًا نتقدّم باستمرار، أم أننا نعيد إنتاج الأزمات ذاتها بصيغ جديدة، وبلبوس أكثر تعقيدًا؟
التقدّم كقيمة حداثية
مع صعود الحداثة الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تَحوّل “التقدّم” إلى عقيدة جديدة، أقرب إلى إيمان جمعي. فالفكر التنويري – من فولتير وكوندورسيه إلى هيغل – اعتبر أنّ مسار التاريخ تصاعدي بطبيعته، وأنّ العقل والعلم كفيلان بإنقاذ الإنسان من براثن الخرافة والجهل. بل إنّ هيغل نفسه ذهب إلى اعتبار أنّ التاريخ ليس إلا “تقدّمًا في وعي الحرية”.
هذا الإيمان الصلب بقدسية التقدّم انعكس في المشاريع الاستعمارية التي لبست ثوب “تمدين الشعوب”، وفي الثورات الصناعية التي رُوّج لها باعتبارها إنجازًا لا رجعة فيه. لكن الوجه الآخر لهذا التقدّم لم يكن أقل قسوة: حروب عالمية مدمّرة، إبادة جماعية، وتحوّل الإنسان إلى ترس صغير داخل ماكينة إنتاج لا ترحم.
الأزمات التي تتكرّر بأشكال جديدة
إذا أمعنّا النظر في مسار القرون الماضية، نلحظ أنّ البشرية لم تتجاوز أزماتها بقدر ما أعادت صياغتها. الحرب – مثلًا – لم تختفِ من الوجود، بل تبدّلت أشكالها من حروب استعمارية تقليدية إلى حروب بالوكالة أو حروب سيبرانية. الاستغلال الاقتصادي لم يختفِ، بل لبس ثوب العولمة واقتصاد السوق المفتوح. حتى قيم الحرية نفسها أصبحت محلّ مساءلة أمام الرقابة الرقمية وهيمنة الخوارزميات.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ “التقدّم” ليس دائمًا خطًّا صاعدًا، بل أشبه بمتوالية من الأزمات المتكرّرة التي ترتدي أقنعة جديدة مع كل عصر.
الرؤية الدائرية للتاريخ في الفكر الشرقي والعربي
في المقابل، قدّم الفكر الشرقي والعربي رؤية مغايرة جذريًّا لمفهوم الزمن والتاريخ. فبدل الخطّ المستقيم، نجد فكرة “الدورة”. ابن خلدون مثلًا نظر إلى العمران البشري ككائن حي يمرّ بمراحل النشوء والازدهار ثم التراجع والانهيار، ليعود في دورة جديدة. الزمن هنا ليس صعودًا أبديًّا نحو الأمام، بل حركة لولبية تتكرّر مع اختلاف الظروف.
هذه الرؤية الدائرية تمنح الإنسان حسًّا أعمق بحدود قوته، إذ تجعله أكثر وعيًا بأنّ الصعود لا يلغي احتمال السقوط، وأنّ التمدّن يحمل في داخله بذور الفناء، وأنّ ما نسمّيه “تقدّمًا” قد يكون مجرّد طور مؤقت ضمن حلقة أكبر.
أزمة المعنى في عصر السرعة
في زمن التكنولوجيا الرقمية، حيث تقاس الإنجازات بسرعة المعالجات الإلكترونية وعدد الابتكارات اليومية، بات التقدّم أشبه بـ”إدمان جماعي”. نُطالب دومًا بأن نركض إلى الأمام، لكن دون أن نتساءل: إلى أين؟ وماذا يعني أصلًا أن نتقدّم؟
النتيجة أنّ الإنسان يعيش اليوم مفارقة قاسية: من جهة، لم يعرف تاريخ البشرية وفرة معرفية وتقنية كالتي يعيشها الآن، ومن جهة أخرى، لم يكن يومًا أكثر قلقًا، عزلةً، وشعورًا باللاجدوى. هنا ينكشف زيف الاعتقاد بأنّ التقدّم المادّي وحده كفيل بإنقاذ الإنسان من أزماته الوجودية.
نحو إعادة تعريف التقدّم
تفكيك مفهوم التقدّم لا يعني إنكار الإنجازات العلمية والمعرفية، بل التشكيك في وهم الخطّ المستقيم. ربما نحتاج إلى مقاربة أكثر تواضعًا ترى في التقدّم مجرّد إمكان، لا قدرًا محتومًا. تقدمٌ يُقاس بمدى قدرتنا على مواجهة الأزمات الأخلاقية والإنسانية، لا فقط بعدد المصانع والاكتشافات.
بين خطّ الغرب المستقيم ودائرة الشرق، قد نجد صيغة ثالثة: مسار حلزوني يجمع بين التكرار والتحوّل. فالتاريخ لا يعيد نفسه بحذافيره، لكنه أيضًا لا يمضي في خطّ واحد بلا عودة. إنّه أشبه برقصة متداخلة: خطو إلى الأمام، والتفاتة إلى الخلف، ثم دوران لا ينتهي.
✦ الخلاصة:
التقدّم ليس حتمية، بل خيار. وهو ليس دائمًا إلى الأمام، بل قد ينطوي على عودة إلى الوراء، أو دوران في المكان نفسه. ما يميّز الحضارة ليس سرعتها في الجري، بل وعيها بالاتجاه الذي تسير فيه.


