×

حين يُرسم التاريخ: كيف وثّق الفن التشكيلي أحداثاً غيّرها المنتصرون؟

حين يُرسم التاريخ: كيف وثّق الفن التشكيلي أحداثاً غيّرها المنتصرون؟

بقلم: جنى أحمد جابر

حين تُكتب كتب التاريخ، غالبًا ما يُترك القلم في يد المنتصر. ينتقي ما يشاء، يضيء ما يناسبه، ويُغفل ما لا يخدم سرده الرسمي. لكن، في زاوية أكثر صدقًا وشاعرية، يقف الفن التشكيلي كأداة مقاومة صامتة، يرسم ما حاول الآخرون دفنه، ويوثق بصريًا ما أرادت السلطة محوه.

لقد لعب الفن عبر العصور دورًا مزدوجًا: أداة سلطة حينًا، وأداة ثورة حينًا آخر. لكن في لحظات التحوّل الكبرى—في الحروب، الثورات، المجازر، والتهجير—برز كصوت بديل، يرسم الواقع بلا تجميل، ويعطي للألم هوية لونية لا تُنسى.

الفن كأرشيف بصري للمسكوت عنه

ليست كل اللوحات مجرد تجميل لجدران المتاحف. بعضها وثيقة. بعضها صرخة. بعضها إعلان رفض. حين تتأمل لوحة “غيرنيكا” (Guernica) لبابلو بيكاسو، لا تقرأ فقط لوحة تكعيبية عبثية، بل توثيقًا لحربٍ قصف فيها الطيران النازي مدينة إسبانية صغيرة دعمًا للفاشية، في واحدة من أولى جرائم القصف الجوي ضد المدنيين في التاريخ الحديث. رسم بيكاسو هذه اللوحة عام 1937، ليس ليُعجب العالم، بل ليصدمه. ليريه ما حاولت الروايات الرسمية إخفاءه. لوحة ضخمة بطول 7 أمتار، صرخ فيها بالحبر واللون ضد الوحشية، والهمجية، والتواطؤ.

حين يغيب التوثيق، يبقى الرسم

في عالمٍ عربي غالبًا ما تُغيّب فيه الرواية البصرية، تشكّل لوحات النكبة الفلسطينية مثالًا آخر على كيف يكون الرسم سلاحًا للذاكرة. لم تُوثق نكبة عام 1948 بكاميرات السينما بقدر ما وُثقت بريشات فنانين مثل إسماعيل شموط، الذي نقل مآسي اللاجئين بريشة مشبعة بالحنين والألم. في لوحاته ترى الأطفال حفاة، النساء يحملن المفاتيح والبيوت على ظهورهن، والرجال يودّعون الأرض. إنها ليست مجرد صور، بل جراح مرسومة بلون الزيت.

الفنان هنا لا يرسم جمال الطبيعة أو حنينًا عبثيًا، بل يرسم شهادة. عمله ليس زخرفيًا، بل أرشيفي. من خلال الفن، احتفظ الفلسطينيون بتاريخٍ حاولت عشرات الكتب المدرسية ومحطات الأخبار محوه أو إعادة صياغته.

من الفن التعبيري إلى الجرافيتي الثوري

ليست المدارس الفنية بمعزل عن هذا الدور التوثيقي. المدرسة التعبيرية، على سبيل المثال، كانت ملاذًا لفنانين وثّقوا الهزات النفسية الناتجة عن الحربين العالميتين. بينما كانت المدرسة الواقعية الجديدة وسيلة لإعادة تقديم العالم من منظور شعبي. ومع تطور التكنولوجيا، لم يتوقف دور الفن عند اللوحات؛ بل تسلل إلى الجدران.

فن الشارع (Street Art) أو الجرافيتي، كما ظهر في الانتفاضة الفلسطينية، أو خلال ثورات الربيع العربي، كان امتدادًا لهذه الروح. لا تنتظر اللوحة اليوم إذنًا من متحف، بل تُرسم فجأة على جدار مهدد بالهدم، لتُعلن: “كنا هنا. حدث هذا. لا تنسوا.”

الفن لا يخضع للرقابة بسهولة

بينما يمكن حذف مقال، أو منع فيلم، يصعب جدًا طمس لوحة فنية صادمة انتشرت رقميًا أو زُينت بها جدران المدن. الفن يمتلك هذه القدرة السحرية على تجاوز الرقابة، وعلى البقاء طويلًا في ذاكرة الشعوب. وهذا ما يجعله، رغم صمته، أخطر من الخطب، وأصدق من الأخبار.

خلاصة: الريشة أقوى أحيانًا من البندقية

حين نعيد قراءة التاريخ البصري للعالم، نكتشف أن الفنان لم يكن يومًا مجرد حالم، بل مؤرخ صامت. وأن اللوحة ليست رفاهية، بل شهادة حقيقية، وتوثيق إنساني لما جرى في العتمة.

في زمن الأخبار السريعة، والمعلومات المضللة، يظل الفن هو الحارس الأخير للذاكرة. هو من يقول الحقيقة التي قد لا تجرؤ السياسة على قولها.

اقرأ اللوحات كما تقرأ الكتب. فربما وجدت في ضربات الفرشاة، ما لن تجده في آلاف الصفحات.

يضم فريق "فكر وخبر" مجموعة من الصحفيين والمحررين المهتمين بتقديم محتوى إعلامي احترافي، يعتمد على الدقة، والتحليل، والطرح الموضوعي للأحداث المحلية والعالمية.