×

خرافة الحياد: كيف ساهم الإعلام في توجيه مصير الشعوب سياسيًّا؟

خرافة الحياد: كيف ساهم الإعلام في توجيه مصير الشعوب سياسيًّا؟

من يملك الرواية يملك السلطة

بقلم: آية علي الزين

في عالم تتلاطم فيه الأمواج السياسية وتتنازع فيه القوى على السيطرة والنفوذ، يُطلّ علينا الإعلام بوجهه المتلوّن، حاملاً شعارات “الحياد” و”الموضوعية” و”النقل كما هو”، بينما في الواقع، يقف كثير منه لاعبًا محوريًّا في صناعة الوعي، وتوجيه العقول، وتشكيل المواقف. فهل كان الإعلام يومًا محايدًا؟ أم أن الحياد في حد ذاته خرافة تروَّج لتكريس السلطة والهيمنة؟

الإعلام والسلطة: زواج تاريخي غير معلن

منذ ولادة الصحافة المطبوعة في أوروبا في القرن السابع عشر، ومن ثم توسعها خلال الثورة الصناعية، لم يكن الإعلام يومًا بعيدًا عن دائرة السلطة. بل كان، ولا يزال، أحد أذرعها الأكثر تأثيرًا. فعبر الصحف، والمجلات، والراديو، ومن ثم التلفاز، وصولاً إلى المنصات الرقمية، تمكّنت الأنظمة السياسية من تمرير سردياتها، وتوجيه الرأي العام، وتبرير سياساتها الداخلية والخارجية.

في عهد الأنظمة الشمولية، كانت وسائل الإعلام تخضع مباشرة للدولة، وتُستخدم كأداة دعائية لتلميع صورة الزعيم وتبرير القمع والاستبداد. وفي الأنظمة الليبرالية، وإن بدت أكثر انفتاحًا، فإن الإعلام غالبًا ما يُستخدم لخدمة مصالح النخبة الاقتصادية والسياسية، عبر تحكم غير مباشر بملاك وسائل الإعلام الكبرى، أو عبر النفوذ الإعلاني والسياسات التحريرية التي لا تنفصل عن المصالح الكبرى.

الإعلام كأداة لبناء العدو

في زمن الحرب الباردة، لم يكن الإعلام مجرد ناقل للأحداث، بل كان أحد ميادين الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي. ففي الولايات المتحدة، صُوِّرت الشيوعية كشيطان متربص، بينما رُسمت صورة أمريكا كحامية الديمقراطية والحرية. وفي المقابل، استخدم الإعلام السوفيتي لغة تعبئة تحذر من “الإمبريالية الأمريكية” وتُمجِّد الاشتراكية.

هذه الثنائية لم تكن بريئة، بل أسهمت في صناعة صورة العدو في ذهن المواطن، وتهيئته نفسيًّا لتقبّل السياسات الحربية والعدوانية، وتبرير التدخلات الخارجية على أنها واجب أخلاقي.

الربيع العربي: حين ينهار القناع

مع اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، انكشفت بشكل فجٍّ وواضح ازدواجية الإعلام العربي والدولي. فقد بدا جليًّا كيف أن بعض القنوات الإخبارية الكبرى، التي طالما تغنت بالموضوعية والمهنيّة، تبنّت روايات معينة، ودعمت أطرافًا سياسية على حساب أخرى، بل وساهمت في شيطنة بعض الحركات وتشويه صورتها، في حين غضّت الطرف عن ممارسات قمعية فادحة ارتكبتها أطراف محسوبة على “الخط المعتدل” أو “الصديق للغرب”.

لم يكن الأمر مجرد تغطية منحازة، بل كان أشبه بإعادة إنتاج للواقع بما يخدم مصالح قوى إقليمية ودولية. لقد تمّ اختزال شعوب بأكملها، ومآسيها، وآمالها، في عناوين قصيرة، أو تقارير مجتزأة، أو حتى صمتٍ متعمَّد.

الإعلام كفاعل سياسي لا كوسيط

ما ينبغي إدراكه هو أن الإعلام ليس وسيطًا محايدًا بين الحدث والمتلقي، بل هو فاعل سياسي بامتياز، يختار ما يسلّط عليه الضوء، وما يُهمّشه، وما يُحرّفه، وما يُقدَّم من زوايا بعينها. حتى طريقة الصياغة، وانتقاء الكلمات، وترتيب الأخبار، ليست بريئة، بل تحمل في طياتها دلالات وتوجيهات ضمنية.

حين تُقدَّم الحرب في أوكرانيا مثلاً بوصفها “عدوانًا روسيًّا” في الغرب، وتُوصَف بأنها “عملية عسكرية خاصة” في الإعلام الروسي، ندرك أننا لسنا أمام خبر واحد بل روايتين متصارعتين، لكل منهما أدواته الإعلامية وجمهوره المستهدف.

الإعلام الجديد… حرية زائفة؟

ظنّ كثيرون أن الإعلام الجديد، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، سيفتح باب الحرية أمام الشعوب، ويكسر احتكار الرواية. لكنه سرعان ما خضع، هو الآخر، لهيمنة الخوارزميات، وتدخلات الحكومات، وتحكم شركات التكنولوجيا العملاقة.

فـ”فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” لم تعد منصات مفتوحة كما كانت تُسوَّق، بل أصبحت أدوات للرقابة الناعمة، تُخفي منشورات، وتُبرز أخرى، وتُعاقب حسابات، وتُروّج لمحتوى بعينه. وها نحن نشهد ما يمكن تسميته بـ”إعادة هندسة الوعي الجمعي” عبر أدوات رقمية خفية، لا يشعر بها المتلقي، لكنها تُشكِّل نظرته للواقع وتعيد برمجة موقفه دون أن يدري.

الإعلام والحرية: السؤال المؤجل

السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا الواقع الملتبس هو: هل يمكن للإعلام أن يكون حرًّا فعلًا؟ وهل توجد وسيلة إعلام لا تخضع لتأثير سياسي أو اقتصادي أو أيديولوجي؟

ربما تكون الإجابة الصادقة: لا. فكل وسيلة إعلامية تنطلق من موقع ما، وتحمل ضمنًا توجهًا ما، حتى لو ادّعت الحياد. لكن ما يمكن السعي إليه هو الشفافية، أي أن تُصرّح الوسيلة بتوجهها، وأن يُدرّب المتلقي على الوعي النقدي، ليتعلم كيف يقرأ ما وراء الخبر، ويفكك اللغة، ويفهم من يخاطبه ولماذا.

خاتمة: الحياد… خرافة أم وعي؟

ليس المقصود من هذا المقال تبنّي نظرة تشاؤمية أو الدعوة إلى مقاطعة الإعلام، بل العكس تمامًا: نحن بحاجة إلى إعلام نقدي، يفضح الخطابات الزائفة، ويكشف التواطؤ، ويُعيد للخبر معناه، وللحقيقة مكانها.

أما الحياد؟ فهو خرافة حين يُستخدم لتبرير التواطؤ، لكنه قد يكون فضيلة حين يتحوّل إلى وعي. وشتّان بين من يدّعي الحياد ليُخفي انحيازه، ومن يعترف بانحيازه ليُصارح جمهوره بالحقيقة.

وفي النهاية، تبقى الكلمة الحرة سلاحًا لا يُكسر، إذا ما حملها قلم صادق وضمير حي.

صحفية وباحثة في مجال الإعلام، حاصلة على درجة الماجستير في الإعلام والتواصل الجماهيري والدراسات السينمائية. مؤسِّسة مجلة "فكر وخبر"، وتهتم بالكتابة في قضايا السياسة والفكر والثقافة والإعلام.