دور الألوان في الأفلام السينمائية وكيف تؤثر نفسيًا على المشاهد؟
لا تقلْ فيلمًا ملوّنًا وإنّما فيلم بالألوان، ربّما تكون هذه المقولة للمخرج السينمائي وصاحب كتاب “مشاهد الفيلم” (سيرجي ميخايلوفيتش أيزنشتاين) مدخلًا جيدًا للحديث عن اللون واشتغالاته في بنية العرض السينمائي، فبعد بداية بالأبيض والأسود للسينما العالمية جاء استخدام الألوان ليعطي أبعادًا دلالية مضافة للأفلام، وفي الوقت ذاته يحوّل هذين اللونين إلى لون واحد استعان به صانعوا السينما ومخرجوها، في التذكّر أو “الفلاش باك”، فيما الألوان الأخرى أصبحت أداة مضافة للتعبير تحمل معها ملامح القوّة التأثيرية في المتلقّي. بعد التعمق في السينما وفي النقد السينمائي، وبعد مشاهدة مئات الأفلام والتعرف إلى عشرات المخرجين، يصبح من السهولة التكهن باسم المخرج الذي وضع لمساته على الفيلم دون الاضطرار إلى قراءة اسمه مع الأسماء في الشارة، فالمخرج يترك بصماته المتعددة عبر عدة تفاصيل ومن هذه التفاصيل المهمة هي الألوان.
تقوم السينما بإثارة المشاعر بأساليب قد لا تدركها، وإنشاء كل لقطة على حدى في الفيلم هو أمر غاية في الصعوبة،كالأفكار التي تحتويها هذه اللقطات. سواء كانت خيار جمالي يصنع بالألوان أو الأثاث الذي يملأ الكادر، من خلالها تستطيع الألوان التلاعب بعواطف المشاهدين بدرجات مختلفة من الوعي واللاوعي. تتسم الألوان في الفيلم بسمات محددة وتشير إلى التصورات التي يحملها المخرج أو ينوي عرضها على المشاهدين للتأثير عليهم، كما وتشكل عنصرًا جوهريًا من العناصر التي يُسخّرها المخرجون للتعبير عن أفكارهم وعن أجواء الفيلم وما يريدون الإيحاء به للمشاهدين. ويمكن القول إن اللون يصبح عنصرًا أساسيًا في تشكيل القصة مثله مثل الحوار والمونتاج أو الموسيقى التصويرية والديكور وغيرها من العناصر الأساسية في العملية الإخراجية السينمائية.
وتلعب اختيارات الألوان في السينما دورًا في عملية التسويق للفيلم أو لشخصيات محددة حيث تتميز هذه الشخصيات من خلال تفردها بلون محدد، أو طغيان حالة خاصة من الألوان عليها كملابسها ومكان سكنها وغرفتها وسيارتها وإكسسواراتها إلى ما هنالك. كذلك ترتبط الألوان بطبيعة المشاعر التي تشعر بها الشخصية وبطبيعة الأفكار التي تفكر فيها الشخصية، وينتج عن المشاعر والأفكار الجو العام النفسي للمشهد. يمكن الإشارة هنا إلى فيلم Her بطولة خواكين فينيكس ومن كتابة وإخراج سبايك جونز. يعرض الفيلم قصة حب ما بين رجل وحيد ونظام تشغيل إلكتروني، ويمكن القول إن القصة تدور حول الحب والوحدة والعزلة والذكريات والفراق. وقد عمل كل من مصمم الأزياء كاسي ستورم مع مدير التصوير جيوف مكفريدج ومصمم الإنتاج كايث باريت على كيفية إبراز هذه المشاعر من خلال الألوان فالبطل في الفيلم يرتدي دائمًا ثيابًا باللون الأحمر الدافئ وكانت ألوان المدينة حوله باردة وباهتة تدفع المشاهد للإحساس أكثر بانفصال البطل عن عالمه وبمدى وحدته الشديدة بعد انفصاله عن زوجته.
في مسلسل Breaking Bad يقوم البطل بخلع قميصه الأحمر وهو في حالة عصبية ووسط شجار مع زوجته، ويتبين أيضًا أن قميصه الداخلي أحمر ولكن بدرجة فاقعة أكثر! فما الغاية من إظهار البطل يرتدي اللون الأحمر بالكامل في ذات الوقت وبدرجات مختلفة؟ إنها دلالة على حالة الانغماس في الجريمة، ودلالة على أن هناك شخصية تخفي شخصية أخرى عند البطل “والتر وايت” وهي الازدواجية في شخصيته التي سادت طوال المسلسل.
في فيلم ستيفن سبيلبرغ Schindler’s List تم تصوير الفيلم بأكمله بدرجات من ألوان الأبيض والأسود. واحدة من أربع صور ملونة في الفيلم بأكمله هي صورة الفتاة الصغيرة المفقودة ذات المعطف الأحمر. صورة كهذه لا يمكن للجمهور إلا أن يلاحظها وسط بحر من الدمار والتشويه والقتل الجماعي. وأحيانًا يتم استخدام الألوان للتعبير عن التطور الذي يحدث على صعيد الشخصية في فيلم Baby Driver يرتدي البطل قميص أبيض اللون وفوقه سترة سوداء بأكمام رمادية فإذا كان الأبيض يعبر عن الخير والأسود عن الشر فالرمادي لون بالمنتصف بين الخير والشر، هذا نفسه حال البطل فهو ليس شرير ولكنه يمارس فعلًا غير أخلاقي بمساعدته لمجموعة لصوص في البداية تمر كل عمليات السرقة بدون أي ضحايا وهو ما يضمن جانبًا من الاستقرار النفسي للبطل ولكن مع تطور الأحداث ووقوع ضحايا في إحدى العمليات يُعاني البطل داخليًا، تقول مصممة الأزياء في الفيلم أنها صبغت القميص الأبيض ليتحول الى رمادي كدليل على انغماس البطل في عالم الجريمة وكل ما انغمس أكثر زادت ألوان ملابسه قتامة الى أن نصل الى نهاية الفيلم ومع خروج البطل من السجن بعد آداء العقوبة نراه في مشهد النهاية يرتدي لونًا ناصع البياض لون البراءة والتطهر من الماضي.
السجن هو أكثر الأماكن برودة وكآبة، إذًا فالأزرق الباهت والرمادي يستخدمان للتعبير عن الحياة داخل السجن ألوان تنقل الاحساس بالرتابة والكآبة وهذا ما نراه بوضوح في فيلم The shawshank Redemption في المشاهد الأولى للفيلم تصل عربة نقل المساجين الى سجن shawshank في العربة مجموعة من السجناء الجدد من بينهم بطل الفيلم رجل مدان ظلمًا بجريمة قتل.. هل سبق أن رأيت عربة نقل مساجين بيضاء اللون من قبل؟ “الأبيض هو لون البراءة” سيارة بيضاء تدخل عالم السجن الغارق بألوان الأزرق والرمادي كأن إختيار لون العربة إشارة للمشاهد منذ البداية أن البطل في المكان الخاطئ… يقول مدير تصوير الفيلم “كنت أشعر أن الألوان الزرقاء والرمادية هي الأنسب لمزاج الفيلم وعالمه أردت للمشاهد أن يشعر بما شعر به البطل ورفاقه” هنا تجدر الاشارة أنه في بعض المشاهد القليلة التي يحقق فيها البطل ورفاقه إنتصارًا صغيرًا نجد أن اللون الأزرق قد أختفى، لصالح ألوان دافئة تميل للبرتقالي… وفي مشهد مبهر يقوم البطل بتشغيل موسيقى أوبرالية عبر مكبرات الصوت ليستمع اليها كل السجناء ببهجة، ثم تطفو الكاميرا بحرية فوقهم يغمرهم ضوء الشمس بلون دافئ ويختفي اللون الأزرق بالكامل ونشعر وكأن السجناء قد أصبحوا أحرار، إختيار اللون هنا هو الذي أعطى هذا التأثير، وفي نهاية الفيلم خارج السجن ستكون الألوان مختلفة تعبيرًا عن الحرية والرغبة في الحياة نرى البطل يستقل سيارة حمراء والكادر مغمور بضوء الشمس ونباتات خضراء على جانبي الطريق مجرد رؤية المشهد بهذه الألوان يمنح المشاهد الأمل والحماس وفي مشهد النهاية نرى شاطئًا وسماءً وبحرًا ودرجة الأزرق مختلفة كليًا عن السجن إنه أزرق فيروزي دافئ ويبعث على الراحة “هذه ألوان الحريّة.”
أما في فيلم Romeo and Juliet النسخة الأمريكية من مسرحية شكسبير الشهيرة حيت تاريخ العداء الطويل بين عائلتين يحول قصة الحب الرومانسية الى حكاية تراجيديا الألوان في هذا الفيلم تُحكى الحكاية بشكل مختلف. اختار المخرج لعائلة روميو اللون الأصفر واختار لعائلة جولييت اللون الأزرق يظهر هذا في ملابسهم وسياراتهم وحتى في ألوان الديكورات حولهم. درجة اللونين مزعجة وعنيفة والأزرق والأصفر لونان متناقضان بشكل يعكس العداء والعنف المتبادل بين العائلتين. وعندما يلتقي روميو وجولييت للمرة الأولى يفصل بينهما حوض أسماك وكان لون الأسماك أزرق وأصفر أي لون العائلتين ليذكرنا المخرج أن بطليه يفصل بينهما تاريخ طويل من صراع العائلتين وأن قصة الحب هذه لن تنتهي بسلام، وعندما يقرر البطلان الإنتحار بالسم يشرب روميو سمًا لونه أصفر أما جولييت تشرب سمًا لونه أزرق في تعبير واضح أن عائلة كل منهما السبب في موته وفي وضع نهاية تراجيديا لهذا الحب.
هناك أفلام يسيطر على معظم مشاهدها لون واحد وذلك لأغراض فنية ترتبط بالحكاية وبالتأثير النفسي الذي يرغب صناع الفيلم بتركه عند المشاهدين على سبيل المثال في فيلم Mad max: Fury Road يتحدث عن نهاية العالم المياه نادرة والقحط والجفاف في كل مكان.. الأصفر لون الصحراء، لون الجفاف والجو العام للفيلم يطغى عليه صبغة برتقالية تخدم إسهاب الشعور الإيحائي، الأجرد، الميؤوس منه واللانهائي المشابه لبيئة المريخ، ينقل المشاهد إلى عالم آخر من الفوضى المتتالية. والأصفر الصحراوي والباهت في الفيلم يجعل المشاهد يشعر وبشكل لا إرادي بالعطش هكذا يؤثر اللون نفسيًا على المشاهدين ويجعلهم يندمجون فيه أكثر … ليس أشد دلالة على تأثير الألوان في السينما من أفلام المخرج الأمريكي ويس أندرسون الحافلة بالتناقض والمفارقات، حيث يعرض المخرج ألوان فاتحة فرحة فيما شخصياته تعاني من الداخل. وعبر أسلوبه هذا يعبر المخرج عن حالة عالم مضطرب يشبه اضطراب ثنائي القطب بكل ما يتضمنه من تقلبات مزاجية وعاطفية حادة. أين يمكن أن نجد الألوان في السينما؟ في الثياب، الشعر، الماكياج، لون العين، الديكور، الإضاءة، الأدوات، وأماكن التصوير. ويعتبر المخرج ستانلي كوبريك أن “اللون هو الملك” في السينما لذا نجد الألوان في كافة تفاصيل أفلامه. للألوان سحرها الخاص، هذا السحر يستخدمه صناع السينما لزيادة قوة الحكاية وتأثيرها النفسي على المشاهدين، فإذا أردت أن تغوص أكثر في الفيلم عليك بالبحث عن الألوان.