صراع الهويات في عالم متحوّل: هل تنهار الدولة القومية أمام العولمة؟
قراءة تحليلية في مصير الهويات الوطنية في عصر الانفجار الرقمي والتشابك العالمي
بقلم: آية علي الزين
في عالم تُسحق فيه الحدود بفعل سطوة التكنولوجيا، وتُذوّب فيه العولمة الخصوصيات الثقافية كما تذيب الأمواج آثار الأقدام على الرمل، تطرح الأسئلة نفسها بإلحاح غير مسبوق: هل ما زالت الهويات الوطنية صامدة؟ وهل الدولة القومية التي ظهرت بعد معاهدات ويستفاليا لا تزال قادرة على حماية معنى “الانتماء” في عالم تتداخل فيه السياسات والثقافات والاقتصادات بغير استئذان؟
منذ عقود، ظن كثير من المفكرين أن العولمة ستكون فرصة ذهبية لتقارب الشعوب وازدهار التبادل الثقافي، إلا أن واقع ما بعد الألفية أفرز مشهدًا أكثر تعقيدًا، حيث عاد التطرّف القومي، وتفاقمت نزعات الانغلاق، وبرزت حركات الهويات كقوى صاعدة تواجه طوفان “الهوية العالمية” الذي تفرضه الشركات، والمنصات، ووسائل الإعلام.
من الدولة القومية إلى العالم الشبكي
الدولة القومية، كما تبلورت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تأسست على فكرة الجماعة المتخيلة (كما وصفها بنديكت أندرسن)، حيث يربط المواطنون مصيرهم ببعضهم من خلال سردية موحدة: تاريخ مشترك، لغة موحدة، حدود معترف بها، وأجهزة مؤسساتية ترعى المصالح المشتركة.
غير أن العولمة، ومعها الانفجار التكنولوجي، ضربت هذه الأسس في الصميم. فالشاب الذي كان يجد في اللغة وسيلة توحيد، بات اليوم يعيش بين لغات متعددة: لغة يتعلم بها، وأخرى يستهلك بها ترفيهه، وثالثة يستخدمها على المنصات الرقمية. ومع الوقت، يتحوّل الانتماء الثقافي إلى “هجين”، يتجاوز الحدود ويخترق الحواجز، لكنه بالمقابل، يُضعف الإحساس الجمعي بوحدة الهوية الوطنية.
المنصات الرقمية: ساحة معركة الهويات الجديدة
من فيسبوك إلى تيك توك، مرورًا بإنستغرام ويوتيوب، تشكّلت فضاءات بديلة للوجود الثقافي، أصبحت فيها المنصات تفرض الذوق، وتوجه القيم، وتبني رموز الشهرة والنفوذ. وهنا لم تعد الدول وحدها من يصوغ الهوية، بل دخلت شركات التكنولوجيا كفاعلين جدد في إعادة تشكيل الوعي الجمعي.
تُحدِث هذه المنصات، وإن بشكل غير مباشر، تآكلًا تدريجيًّا في الانتماءات الوطنية الصلبة. فالمحتوى العابر للحدود، والموجّه بلغة عالمية، يخلق نمطًا من “المواطنة الرقمية” التي لا تعترف بالخرائط، بل بالاتصال الدائم والانخراط في الثقافة الافتراضية. وبهذا المعنى، يُعاد تشكيل الهوية، لا من خلال الإرث الثقافي أو الجغرافيا، بل وفق معايير جديدة من “الظهور”، و”المشاركة”، و”التفاعل”.
الهوية في قبضة رأس المال الثقافي
العولمة الثقافية لا تعمل في فراغ، بل تحركها قوى السوق. فحين تفرض شركة ترفيه أمريكية نمط حياة معينًا في أعمالها، أو تنتشر الأغاني والأفلام بلغة واحدة، فإن ذلك لا يُعد مجرد صدفة، بل يعكس ديناميات السيطرة الثقافية الناعمة، التي وصفها غرامشي بـ”الهيمنة الثقافية”.
الهوية هنا تتحوّل إلى سلعة، تُنتج وتُستهلك وتُصدّر. الشاب العربي الذي يرتدي العلامة التجارية الغربية ذاتها التي يرتديها نظيره في نيويورك، ويستمع لنفس الموسيقى، ويتبع نفس ترندات الموضة، قد لا يشعر أنه فقد جزءًا من هويته، لكنه في الحقيقة أصبح مستهلكًا لمنظومة رمزية لا تمت لجذوره بصلة.
مقاومة أم انكماش؟
أمام هذا المدّ الهائل، لم تقف الهويات الوطنية مكتوفة الأيدي. بل شهدنا في السنوات الأخيرة تصاعدًا لخطاب الهوية والانتماء في عدد من الدول، ترافق مع عودة الشعبويات، والخطابات القومية، والحركات الرافضة للعولمة. في أوروبا، ارتفعت أسهم الأحزاب اليمينية المتطرفة. في العالم العربي، زادت وتيرة النقاش حول اللغة، واللباس، والمناهج التعليمية، كآليات للحفاظ على “الذات الجمعية”.
لكن التحدي يكمن في كيفية مقاومة الذوبان دون الوقوع في فخ الانغلاق أو التعصب. فالهويات المتصلبة قد تكون رد فعل نفسيًّا على القلق الوجودي الذي تولّده العولمة، لكنها لا تقدّم بديلًا عمليًّا مستدامًا ما لم تكن متصالحة مع العصر، قادرة على التجديد من الداخل، وحامية لقيم الانفتاح والتنوع في آن.
الهوية ليست سجنًا بل بوصلة
في هذا العالم المترابط، لا يمكن عزل الذات عن الآخر، ولا بناء جدران منيعة في وجه الاتصال. لكن الحفاظ على الهوية لا يعني الانغلاق، بل يتطلب الوعي، والقدرة على الفرز، وإعادة البناء الواعي للذات. الهوية ليست ما نرثه فقط، بل ما نختار أن نكونه، ضمن شروط الواقع.
إنّ التحدي الأكبر أمامنا اليوم ليس في مقاومة العولمة، بل في استرداد أدواتنا الثقافية لنكون فاعلين فيها، لا مفعولًا بهم. علينا أن نعيد تعريف المواطنة، والانتماء، والتعدد، خارج ثنائية “التراث مقابل الحداثة”، بل ضمن رؤية تتسع للهويات المركّبة، والولاءات المتعددة، دون أن تضيع البوصلة.
من نكون في زمن السيولة؟
نحن نعيش، كما وصف زيجمونت باومان، في “زمن سائل”، تتبدل فيه القيم والهويات والمفاهيم بوتيرة متسارعة. في هذا الزمن، لا يكفي أن نتمسك بالهوية كشعار، بل يجب أن نعيد بناءها كفعل يومي، ومشروع ثقافي، واختيار واعٍ في وجه السيل الجارف من القوالب الجاهزة.
ففي نهاية المطاف، من لا يملك سرديته، يعيش ضمن سرديات الآخرين. ومن لا يصوغ لغته الخاصة، سيبقى أسيرًا للترجمات، مهما بدت أنيقة أو عصرية.