كيف غيّر الذكاء الاصطناعي وجه الصحافة الاستقصائية؟
بقلم: آية علي الزين
في السنوات الأخيرة، غزت تقنيات الذكاء الاصطناعي جميع جوانب الحياة، وكان للصحافة، لاسيما الصحافة الاستقصائية، نصيب كبير من هذا التحول الرقمي الجذري. لم تعد أدوات الصحفي تقتصر على القلم والمذكرة والمقابلات، بل باتت تمتد إلى خوارزميات معقدة قادرة على فرز ملايين البيانات، والتقاط الأنماط، وتحديد مواضع الخلل والتلاعب، وصولاً إلى صياغة قصص مؤثرة ومدعومة بالأدلة.
أولاً: تعريف الصحافة الاستقصائية وأهميتها
الصحافة الاستقصائية هي أحد أكثر أشكال العمل الصحفي تعقيدًا وخطورة، لأنها تسعى إلى كشف حقائق مخفية عن الرأي العام غالبًا ما تتعلق بالفساد، الجريمة، التلاعب السياسي، أو الانتهاكات الحقوقية. هذه التحقيقات تتطلب وقتًا طويلًا، تمويلًا، وحرية في الوصول إلى المعلومات، كما أنها تعتمد على التحليل العميق للأحداث والأرقام بدلًا من مجرد تغطية سطحية.
ما يميز هذا النوع من الصحافة أنه لا يكتفي بسرد ما حدث، بل يبحث في الأسباب والدوافع والنتائج، ويضع السلطات أمام مسؤولياتها، وهو ما جعل الصحافة الاستقصائية أحد أركان الرقابة الشعبية والمساءلة الديمقراطية.
ثانيًا: دور الذكاء الاصطناعي في دعم العمل الاستقصائي
الذكاء الاصطناعي لا يحل مكان الصحفي، لكنه يمنحه أدوات غير مسبوقة لتوسيع رؤيته وقدرته على التحليل والوصول إلى مصادر جديدة.
1. تحليل البيانات الضخمة
- كثير من التسريبات اليوم تتضمن ملايين الوثائق والرسائل والملفات (مثل تسريبات “وثائق بنما” و”وثائق الجنة”).
- الذكاء الاصطناعي يُستخدم لفرز هذه البيانات واستخراج الأنماط.
- أدوات مثل Natural Language Processing (معالجة اللغة الطبيعية) تساعد على فهم المحتوى المكتوب وتحليل العبارات واكتشاف الكلمات المفتاحية.
2. الربط بين الكيانات والأشخاص
- تقنيات التعرف على الكيانات Named Entity Recognition تُمكّن من اكتشاف العلاقات الخفية بين السياسيين ورجال الأعمال والشركات الوهمية.
- برامج مثل Maltego تتيح رسم خرائط ذكية للعلاقات وتكوين صورة بصرية للشبكات المعقدة.
3. كشف التزييف والتلاعب
- تقنيات الذكاء الاصطناعي تُستخدم في تحليل الصور والفيديوهات للكشف عن التعديلات.
- أدوات التحقق من الفيديوهات العميقة (Deepfakes) أصبحت ضرورة.
4. أتمتة جمع المعلومات
- الزحف الإلكتروني Crawling عبر الإنترنت لجمع بيانات من مواقع حكومية، سجلات شركات، وسائل التواصل.
- أدوات مثل Hunchly تحفظ وتوثق كل خطوة يقوم بها الصحفي خلال عملية البحث الرقمي.
ثالثًا: كيف غيّرت هذه الأدوات طبيعة عمل الصحفي؟
لم يعد الصحفي يعمل بمفرده، بل أصبح يعمل ضمن فريق يضم محللي بيانات ومبرمجين ومتخصصين في الأمن الرقمي. بات لزامًا على الصحفي اليوم أن يكون على دراية بأساسيات الأمن السيبراني، وتحليل البيانات، والبرمجيات مفتوحة المصدر، إلى جانب المهارات التقليدية في إجراء المقابلات والتقصي الميداني.
أمثلة من الواقع:
- في تحقيق “وثائق بنما” (2016) الذي شارك فيه أكثر من 370 صحفيًا حول العالم، استخدمت أدوات ذكاء اصطناعي لتحليل 11.5 مليون وثيقة.
- تحقيقات OCCRP استخدمت منصة Aleph لفهم الروابط بين شبكات تهريب وغسل الأموال.
رابعًا: التحديات الأخلاقية والمهنية
1. التحيّز الخوارزمي
- يمكن للخوارزميات أن تعكس تحيّزًا في البرمجة أو قاعدة البيانات.
- خطر توجيه الصحفي نحو نتائج خاطئة إذا لم يكن مدركًا لحدود الأداة.
2. حماية المصادر
- الذكاء الاصطناعي أداة قوية لكن في الوقت ذاته قد يتسبب في تعريض المصادر للخطر في حال لم تُستخدم الأدوات بأمان.
- ضرورة استخدام شبكات مشفرة وتطبيقات حماية الهوية.
3. الاعتماد المفرط على التكنولوجيا
- الحدس الصحفي، الحذر، الفهم العميق للسياق، لا يمكن تعويضه بالأدوات.
- الذكاء الاصطناعي لا يملك حسّ العدالة، ولا يعرف المعايير الأخلاقية، بل هو منفذ للأوامر فقط.
خامسًا: مستقبل الصحافة الاستقصائية في عصر الذكاء الاصطناعي
المستقبل يُشير إلى تزايد الاعتماد على هذه الأدوات، ولكن من خلال صحفيين أكثر تدريبًا على التعامل معها بحذر واحترافية. الجامعات بدأت تُدرّس مواد في “الصحافة البيانية” و”الصحافة المفتوحة المصدر”، وتظهر مشاريع ناشئة تجمع بين الإعلام والبرمجة مثل:
- Bellingcat: مشروع مستقل يستخدم أدوات مفتوحة المصدر في تحقيقاته الاستقصائية.
- The Markup: منظمة صحفية تستخدم علم البيانات لكشف تأثير التكنولوجيا على المجتمع.
خلاصة
الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا للصحافة الاستقصائية، بل فرصة لتوسيع أفقها وتعزيز قدراتها، شرط أن يُستخدم بشكل أخلاقي ومهني. في النهاية، لا يمكن لأي خوارزمية أن تحل مكان شجاعة صحفي قرر أن يواجه الحقيقة ويكشف المستور.
الصحافة الاستقصائية تظل الضمير الحي للمجتمعات، ومتى ما تزوّدت بهذه الأدوات الذكية، أصبحت أكثر قدرة على محاسبة السلطة، وإيصال صوت الناس، وكشف الحقيقة.