مراجعة نقدية لنظرية الاستخدامات والإشباعات في البيئة الرقمية المعاصرة
بقلم: آية علي الزين
مقدمة
شهدت نظرية الاستخدامات والإشباعات (Uses and Gratifications) تقديراً واسعًا منذ سبعينيات القرن الماضي بوصفها مقاربة تضع الجمهور في مركز العملية الاتصالية، وتُسند إليه دورًا فاعلًا في اختيار المحتوى الإعلامي والسعي وراء إشباعات محددة. ومع التحول الجذري الذي أحدثته البيئة الرقمية—بما تتضمنه من تفاعلية فائقة، وتخصيص للمحتوى، وانتشار الخوارزميات—عاد الجدل حول مدى قدرة هذه النظرية على تفسير السلوك الاتصالي في عالم لم يعد الجمهور فيه «مستخدمًا مستقلًّا» بقدر ما أصبح «ناتجًا» لعمليات تقنية واقتصادية معقدة.
هذه المراجعة النقدية تُعيد طرح النظرية في سياقها الرقمي الراهن، بين ما تحمله من صلاحية وما تواجهه من تحديات.
أولًا: الخلفية المفاهيمية للنظرية
انطلقت نظرية الاستخدامات والإشباعات من افتراض أساسي مفاده أن الجمهور نشط، يمتلك القدرة على:
- اختيار الوسيلة،
- تحديد نوع المحتوى،
- البحث عن إشباعات معرفية، عاطفية، اجتماعية، أو نفسية،
- تقييم مدى تحقق الإشباع.
وبذلك، قدّمت النظرية تحوّلًا في الدراسات الإعلامية من سؤال: «ماذا تفعل وسائل الإعلام بالجمهور؟» إلى سؤال: «ماذا يفعل الجمهور بوسائل الإعلام؟».
لكن هذا التحول كان مرتبطًا بمرحلة إعلام تقليدي ذات خصائص مختلفة جذريًا عن الواقع الرقمي الذي نعيشه اليوم.
ثانيًا: البيئة الرقمية وتغيّر شروط التفاعل الإعلامي
دفعت الثورة الرقمية النظرية إلى حدودها القصوى، بسبب تغيّر طبيعة الوسيط الإعلامي نفسه. وتشمل التغيرات الأساسية:
1. انفجار الخيارات واتساع حرية المشاهدة
أصبحت الإشباعات متاحة بضغطة زر: المعرفة، الترفيه، التواصل، وحتى الهروب النفسي.
لكن الوفرة هنا لا تعني استقلالية كاملة؛ فالمستخدم يتعامل مع محتوى تُعيد هندسته خوارزميات تعمل وفق منطق الربحية والتخصيص.
2. التفاعلية وانتقال الجمهور من مستهلك إلى منتِج
لم يعد الجمهور متلقيًا فحسب، بل أصبح جزءًا من عملية إنتاج وتداول المحتوى من خلال:
- البث المباشر،
- المقالات القصيرة،
- منشورات السوشيال ميديا،
- التعليقات والتفاعلات.
وهنا يتغير معنى «الإشباعات» من استهلاك محتوى إلى مشاركة في صناعة المعنى.
3. الخوارزميات كوسيط جديد بين المستخدم والمحتوى
هذا العنصر تحديدًا يشكّل التحدي الأكبر للنظرية في صيغتها الكلاسيكية؛ إذ يحدّ من استقلالية المستخدم:
- خوارزميات فيسبوك وتيك توك ويوتيوب تقدّم محتوى مصممًا بناء على الزمن الذي يقضيه المستخدم،
- آليات تحسين التفاعل تدفع نحو أنماط محددة من الاستهلاك،
- الفقاعات المعلوماتية تخلق إشباعات «مُعلّبة» مسبقًا.
أي أنّ الجمهور لا يبحث دائمًا عن الإشباعات… بل الإشباعات هي التي «تبحث عنه».
ثالثًا: مدى صلاحية النظرية في تفسير السلوك الرقمي
يظهر من خلال الأدبيات المعاصرة أن النظرية لا تزال تمتلك بعض الفاعلية، خصوصًا في الجوانب التالية:
1. تفسير دوافع الاستخدام في المنصات الرقمية
لا تزال الدوافع التقليدية قائمة:
- المعرفة عبر الأخبار الرقمية.
- الهوية والانتماء عبر التواصل الاجتماعي.
- الترفيه عبر الفيديو القصير والألعاب.
- الهروب من الضغوط عبر استهلاك المحتوى الخفيف.
2. القدرة على تفسير اختلاف أنماط الجمهور
تفسّر النظرية لماذا يفضّل بعض المستخدمين تويتر للتحليل السياسي، بينما يميل آخرون إلى إنستغرام للتعبير البصري، أو إلى تيك توك لمحتوى سريع الإيقاع.
3. إعادة مركزية المستخدم في النقاش العلمي
رغم سيطرة الشركات الرقمية، تظل نظرية الاستخدامات والإشباعات إطارًا يذكّر الباحث بأهمية فهم تجارب الأفراد، لا فقط تحليل بنية الوسائط.
رابعًا: الانتقادات المعاصرة للنظرية في ظل الواقع الرقمي
على الرغم من قوتها التاريخية، تواجه النظرية اليوم مجموعة من الانتقادات التي تمنع اعتمادها وحدها في تفسير السلوك الاتصالي الرقمي:
1. افتراض استقلالية المستخدم لم يعد دقيقًا
البيئة الرقمية تحوّلت إلى اقتصاد قائم على:
- جمع البيانات،
- استغلال الانتباه،
- التحكم الخوارزمي بالمحتوى.
وبالتالي، تصبح «إشباعات المستخدم» في كثير من الأحيان نتيجة «تصميم مُوجَّه».
2. تجاهل تأثير البنى الاقتصادية والسياسية
لا تأخذ النظرية في الاعتبار:
- سلطة الشركات المالكة للمنصات،
- آليات الإعلانات الموجهة،
- الرقابة غير المباشرة.
في العصر الرقمي، لا يمكن فصل دوافع الاستخدام عن سياقات القوة.
3. قصور أدوات القياس التقليدية
الاستبيانات والمقابلات لم تعد كافية لالتقاط ظواهر مثل:
- التفاعل اللحظي،
- الإدمان الرقمي،
- تدفق المحتوى المستمر،
- الاستهلاك اللاواعي.
الحاجة اليوم إلى دمج التحليل المعرفي والسلوكي وتحليل البيانات الضخمة.
4. صعوبة تحديد الإشباعات في بيئة متغيرة وسريعة
تغيّر المنصات ووظائفها بسرعة، ما يحدّ من قدرة الباحث على تحديد دوافع ثابتة.
خامسًا: نحو تطوير النظرية في إطار رقمي جديد
تحتاج النظرية إلى إعادة صياغة تستجيب للواقع الحالي، ويمكن اقتراح اتجاهات تطويرية تشمل:
1. دمج التحليل الخوارزمي ضمن إطار النظرية
فهم «الاستخدامات» يجب أن يشمل:
- كيف تقترح المنصات المحتوى،
- كيف تُعيد تشكيل الإشباعات،
- كيف تؤثر على الخيارات.
2. الانتقال إلى مفهوم «الإشباعات المتبادلة»
لم تعد الإشباعات تخص المستخدم فقط؛ المنصات أيضًا تبحث عن «إشباعات» مثل:
- جمع البيانات،
- رفع المشاركة،
- إطالة زمن التفاعل،
- تعزيز نماذج الإعلان.
3. توسيع النظرية لتشمل ديناميات الهوية الرقمية
باتت الإشباعات مرتبطة ببناء الذات اللاتقليدية:
- الهوية الافتراضية،
- الانتماء المجتمعي الرقمي،
- السلوك التمثيلي أمام الجمهور.
4. اعتماد مقاربات كمية ونوعية متقدمة
مثل:
- تحليل البيانات الضخمة،
- تتبع السلوك الرقمي،
- تحليل الشبكات الاجتماعية،
- مراقبة أنماط الاستهلاك الفعلي وليس المُصرّح عنه.
خاتمة
لا تزال نظرية الاستخدامات والإشباعات إطارًا مهمًا في فهم علاقة الجمهور بالوسائط، لكن البيئة الرقمية فرضت إعادة التفكير في كثير من افتراضاتها.
فالجمهور لم يعد الفاعل الوحيد، والخوارزميات أصبحت شريكًا رئيسيًا في صناعة الإشباعات.
ولذلك، فإن تطوير هذه النظرية بات ضرورة معرفية؛ لتجاوز حدود التفسير التقليدي، ولتقديم قراءة أعمق وأكثر واقعية لطبيعة العلاقة بين الناس والتكنولوجيا، في زمن باتت فيه المنصات تعرف عن المستخدم أكثر مما يعرفه عن نفسه.


