هندسة الإدراك: كيف تصنع الدول وعي الشعوب دون أن ندري؟
بقلم: آية علي الزين
في زمن تتلاطم فيه الأخبار من كل حدبٍ وصوب، وتُبثّ فيه السرديات بسرعة الضوء، بات من الصعب التمييز بين الحقيقة وما يُراد لنا أن نؤمن به. لم تعد المعارك تُخاض فقط في ميادين القتال، بل أصبحت تُخاض، أولاً وأساسًا، في ميادين الإدراك الجمعي. هذا ما يمكن تسميته بـ”هندسة الإدراك”، حيث لا تُقاس السلطة فقط بكمّ السلاح أو المال، بل بقدرتها على تشكيل ما نظنه حقيقة وما نعتبره وهمًا.
ما هي هندسة الإدراك؟
هندسة الإدراك مصطلح يستخدم لوصف تلك الآليات التي تعتمدها الحكومات والمؤسسات الكبرى لتوجيه عقول الشعوب، ليس عن طريق القمع المباشر، بل عبر إعادة تشكيل الوعي العام بشكل تدريجي ومتقن. إنها سياسة ناعمة، خفيّة، تتسلل عبر الإعلام، التعليم، الفن، اللغة، وحتى منصات التواصل الاجتماعي.
ليست المسألة نظرية. فلنتأمل لحظة في كيف تغيّرت مفاهيمنا ومواقفنا تجاه قضايا كبرى في غضون سنوات قليلة. من العدو؟ من الصديق؟ من الضحية؟ من المعتدي؟ من له الحق؟ ومن تُسلب حقوقه باسم القانون؟ إن الإجابات عن هذه الأسئلة لا تُصاغ فقط في عقولنا، بل تُصاغ لنا.
بين الدعاية والبروباغندا: السرديات تصنع الواقع
حين غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، لم يكن الهدف المعلن هو السيطرة على النفط، بل “تدمير أسلحة الدمار الشامل” و”تحرير الشعب العراقي”. طُبخت الرواية إعلامياً حتى باتت مُسلّماً بها عند الرأي العام الغربي، بل وحتى في بعض الأوساط العربية. لم يكن أحد يسأل: هل هناك دليل؟ بل كان السؤال: متى يبدأ الهجوم؟
وهنا يتجلّى أحد أوجه هندسة الإدراك: عبر تكرار الرسالة واستخدام لغة مُحملة أخلاقياً (مثل: ديكتاتور، تحرير، إرهاب، سلام، ضحايا، دفاع عن النفس…)، يُعاد تشكيل المنظومة الإدراكية للناس، وتُهيأ الأرضية النفسية والعاطفية لتقبل أحداث كانت في الأصل مرفوضة.
اللغة كسلاح سياسي
اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل أداة تحكم إدراكي. حين يُستخدم مصطلح “الضربات الوقائية” بدلاً من “العدوان المسلح”، أو حين يُقال “احتكاك” بدلاً من “قمع”، نحن لسنا أمام مجرد تلاعب لغوي، بل أمام إعادة رسم للحقيقة. اللغة تُطوّع لتخدم سرديات الدول.
لاحظ كيف تُغطى الحروب في الإعلام الغربي مثلاً: إذا قُتل مدنيون بفعل قصف غربي، يُستخدم مصطلح “أضرار جانبية”. أما إذا قُتلوا بفعل طرف تعتبره هذه الوسائل معادياً، فيُقال: “مجزرة، إبادة، جريمة حرب”. الفرق ليس في عدد القتلى، بل في موقع القاتل ضمن هندسة السردية.
الرقابة الناعمة والمنصات الرقمية
لم تعد الرقابة كما كانت في العقود الماضية، حيث تُمنع الكتب وتُغلق الصحف. اليوم تُمارس الرقابة عبر وفرة المحتوى، لا ندرته. يُغرق المستخدم بالمعلومة حتى يغيب السؤال الحقيقي. تُفتح له عشرات المواضيع التافهة والهامشية لتُلهيه عن المسألة الجوهرية. كما تُستخدم خوارزميات المنصات لتوجيه اهتمامه، لا إلى ما يريد، بل إلى ما يُراد له أن يريده.
وفي هذا السياق، يتم تفضيل الأصوات المنسجمة مع الخطاب السائد، وتُقصى أو تُخفى أو تُشوَّه الأصوات المخالفة، عبر أدوات “الترند”، و”الحظر الظلّي” (Shadow banning)، والتصنيف الأمني للمحتوى.
أمثلة حيّة من الواقع
الصين وإعادة تشكيل صورة الإيغور: سردية محكمة وهندسة إدراك دولية
في العقد الأخير، شكّلت الصين نموذجًا متقدّمًا لهندسة الإدراك في الداخل والخارج، خصوصًا فيما يتعلق بقضية أقلية الإيغور المسلمة في إقليم شينجيانغ. الاتهامات الموجهة للحكومة الصينية تتراوح بين الاعتقال الجماعي، إعادة التعليم الإجباري، والمراقبة الرقمية الشاملة، إلى حد وصف بعض المراقبين الغربيين ما يحدث بأنه نوع من “الإبادة الثقافية”.
🧩 كيف أدارت الصين السردية؟
- الداخل أولًا:
- الإعلام الرسمي الصيني يصوّر السياسات في شينجيانغ على أنها “برامج مكافحة التطرف والإرهاب”، ويُبرز “قصص نجاح” لأشخاص تم “إصلاحهم” عبر التعليم المهني.
- يُستخدم في ذلك أفلام وثائقية مصنوعة بعناية، زيارات منظمة لصحفيين أجانب، وتقارير تُبث بلغات متعددة.
- الصين في الخارج:
- تستثمر الصين في منصات دولية (مثل CGTN، China Daily) لنشر الرواية الرسمية بأسلوب يبدو موضوعيًا.
- تستغل نفوذها الاقتصادي مع الدول الإسلامية عبر مبادرة “الحزام والطريق”، لإسكات أي انتقاد من حكومات كثيرة، بل وجعل بعضها يُثني على “جهود الصين في مكافحة الإرهاب”.
- تقنيات متطورة للهندسة:
- تستخدم الصين الذكاء الاصطناعي، وتطبيقات الهواتف، وكاميرات التعرف على الوجه، لمراقبة شعبها بشكل غير مسبوق، وتجمع بيانات تساعد على ضبط السلوك الجماعي.\n – وهنا، لا تتحكم فقط في السردية، بل في الواقع نفسه.
📢 المفارقة:
في حين تتحدث الدول الغربية عن القمع، فإن جزءًا كبيرًا من سكان الصين يرون أن ما يحصل هو مجرد تطوّر ضروري للحفاظ على الاستقرار. لماذا؟ لأن الرواية الوحيدة المتاحة لهم هي رواية الدولة. إنها هندسة إدراك متقنة لا تعتمد على الخوف، بل على تكرار مفاهيم مثل: الاستقرار، الوحدة، محاربة التطرف، التنمية المشتركة.
في السياق العربي، نجد كيف يُعاد تدوير المفاهيم الوطنية والقومية والدينية لتخدم سرديات السلطة، سواء في التبرير أو التخوين، في الولاء أو في المعاداة. الإعلام الرسمي وشبه الرسمي يلعب دوراً محورياً في ذلك.
كيف نحصّن وعينا؟
المقاومة الأولى لهندسة الإدراك هي في الوعي النقدي. في أن نطرح الأسئلة الصعبة: من يروي القصة؟ ما الذي لم يُقل؟ ما الذي غُيّب؟ ما المصطلحات المستخدمة ولماذا؟ ما السياق التاريخي لما يحدث؟
القراءة المتعددة المصادر، الانفتاح على الرأي المخالف، والتحقق من المعلومات، ليست ترفاً فكرياً، بل باتت من أدوات البقاء الذهني في عالم تُخاض فيه الحروب على وعيك، لا فقط على أرضك.
في الختام
ليست الحقيقة ضحية الحروب فقط، بل هي ساحة الحرب الأولى. وما لم نُدرك أن عقولنا تُستهدف بنفس ما يُستهدف به جسد الجندي في الميدان، فسنكون، دون أن نعلم، أدوات في يد من يصنع لنا وعينا. هندسة الإدراك ليست نظرية مؤامرة، بل علم يُدرّس في الكليات العسكرية ومراكز الأبحاث، وأداة تُستخدم يومياً أمام أعيننا.
حين نكفّ عن التساؤل، نصير بوقاً. وحين نصدّق كل ما يُقال دون مساءلة، نكون قد سلّمنا وعيَنا طواعية.
فمن يتحكم بإدراكك، يتحكم بمصيرك.