×

سياسات الذاكرة: من يملك حق رواية التاريخ؟

سياسات الذاكرة: من يملك حق رواية التاريخ؟

بقلم: آية علي الزين

في كل مجتمع، الذاكرة ليست مجرّد خزانٍ للذكريات، بل ساحة صراع مفتوحة بين من يسعى إلى التذكّر ومن يعمل على النسيان المتعمّد. فالتاريخ، كما يقول المفكر الفرنسي بيار نورا، “لا يُكتب فقط بما حدث، بل بما تقرّر أن يُتذكّر.” وهنا تنشأ ما يُعرف بـ سياسات الذاكرة — أي تلك العمليات التي تُعيد تشكيل الماضي لخدمة الحاضر، وتمنح شرعية لروايةٍ على حساب أخرى.

الذاكرة كأداة سلطة

ليست الذاكرة محايدة، بل تُصاغ غالبًا في دوائر السلطة. فالدول، حين تؤسّس لروايتها الرسمية عن الماضي، إنما تمارس فعلًا سياسيًا بامتياز. تُشيّد المتاحف والنُصُب التذكارية، وتُحدّد ما يُدرَّس في المناهج، وما يُحذف أو يُهمَّش. وفي المقابل، تُهمَل أو تُطمس ذاكرة الجماعات المهمّشة، كالفلاحين، واللاجئين، والمهزومين في الحروب.

في هذا السياق، تتحوّل الذاكرة إلى مورد رمزي لتثبيت الهوية الوطنية، أو لتبرير الصراعات الراهنة. فحين تُحتكر رواية التاريخ، يُصادر معها حقّ الجماعات في سرد تجربتها الإنسانية، ويُعاد ترتيب الزمن على نحوٍ يخدم السلطة القائمة.

أمثلة عالمية: من أوروبا إلى فلسطين

في أوروبا، شكّل المحرقة اليهودية (الهولوكوست) نموذجًا كلاسيكيًا لسياسات الذاكرة. فبعد الحرب العالمية الثانية، تحوّلت الذاكرة اليهودية إلى محور أساسي في الخطاب الغربي، ليس فقط لأسباب إنسانية، بل لأنّها أسّست لشرعية سياسية “لإسرائيل”، ولخطابٍ غربيّ يربط بين “الذنب التاريخي” والدعم المستمر للمشروع الصهيوني.
في المقابل، تُمارس إسرائيل نفسها اليوم سياسات ذاكرة مضادّة، تُعيد من خلالها تشكيل رواية الأرض، وتحذف من الوعي العالمي ذاكرة الفلسطينيين، وخصوصًا ذاكرة النكبة. فبينما تُوثّق مؤسسات إسرائيلية كل حجر من تاريخها المزعوم، يُمنع الفلسطيني من ذكر قريته في الكتب المدرسية أو من تخليد ذكراه في الفضاء العام. إنها عملية استعمار للذاكرة لا تقلّ قسوة عن استعمار الأرض.

وفي أمريكا اللاتينية، شهدت الأرجنتين وتشيلي معارك طويلة لاستعادة ذاكرة “المختفين قسرًا” في زمن الديكتاتوريات. تلك المعارك لم تكن فقط قانونية أو حقوقية، بل نضالًا ضد النسيان، وضد سرديات الدولة التي حاولت اختزال المأساة في أرقام بلا وجوه.

الذاكرة الجماعية والإعلام الجديد

في عصر الإنترنت، دخلت الذاكرة مرحلة جديدة: لم تعد حكرًا على المؤسسات الرسمية، بل باتت تتشكّل رقميًا من خلال الصور والفيديوهات والشهادات الفردية المنتشرة على المنصّات. غير أنّ هذا الانفتاح لم يُلغِ الصراع، بل أعاد صياغته. فالشركات الرقمية الكبرى اليوم (غوغل، ميتا، إكس…) تمتلك قدرة هائلة على توجيه الذاكرة الجمعية من خلال خوارزميات تُبرز أحداثًا وتُخفي أخرى.
وهكذا، تنتقل سياسات الذاكرة من المؤسسة إلى المنصّة، ومن الأرشيف الورقي إلى الأرشيف الرقمي، فيتحوّل الماضي إلى منتج إعلامي قابل للمونتاج وإعادة التوزيع وفقًا لمصالح السوق والسياسة.

بين العدالة والنسيان

يتجادل الفلاسفة منذ قرون حول سؤال النسيان: هل هو خيانة للضحايا أم شرط للتعافي؟ يرى بول ريكور أنّ المصالحة لا يمكن أن تتمّ من دون “نسيانٍ عادل”، أي نسيانٍ لا يلغي الحقيقة بل يحرّر الوعي من أسرها. لكن في واقعنا العربي، كثيرًا ما يُستعمل “النسيان” كأداة قمع، وكأنّ التذكّر جريمة.
فالأنظمة التي مارست القمع والحروب الداخلية، تسعى إلى طيّ الصفحات من دون اعتراف أو مساءلة، لتبدأ سردية جديدة على أنقاض الذاكرة الجمعية. أما المجتمعات التي تُصرّ على التذكّر، فهي في الحقيقة تحمي حقها في المستقبل، لأنّ من لا يملك ذاكرته لا يملك سرديته، ولا يستطيع أن يبني هوية متماسكة.

من يملك رواية التاريخ؟

السؤال الجوهري إذًا ليس عمّن كتب التاريخ، بل عمّن سمح له بالكتابة. فالتاريخ الذي يُكتب من موقع المنتصر هو تاريخ ناقص بالضرورة، بينما الذاكرة الحقيقية تنبع من التعدد، من جمع الروايات لا إلغائها.
في عالمٍ تُختزل فيه الحقائق إلى شعارات، وتُدار فيه الذاكرة كأصل سياسي، يصبح الدفاع عن الحق في التذكّر شكلًا من أشكال المقاومة الثقافية. إنها مقاومة لا ترفع السلاح، بل ترفع القلم والصورة والأرشيف، لتقول: نحن أيضًا كنّا هنا.


الخلاصة

سياسات الذاكرة ليست مسألة أكاديمية فحسب، بل هي جوهر الصراع على المعنى. من يمتلك الذاكرة يمتلك المستقبل، ومن يُقصى من التاريخ يُقصى من الوعي الجمعي. لذلك، فإن إعادة النظر في كيفية كتابة تاريخنا، وفتح المجال أمام الأصوات المهمّشة لتروي، هي الخطوة الأولى نحو عدالة رمزية، تمهّد لعدالة واقعية.

اعلامية وباحثة في مجال الإعلام، حاصلة على درجة الماجستير في الإعلام والتواصل الجماهيري والدراسات السينمائية. متخصصة في تفكيك البروباغندا وكشف أبعادها الأيديولوجية. ومؤسِّسة مجلة "فكر وخبر". تهتم بالكتابة في قضايا السياسة والفكر والثقافة والإعلام.