من يحكم العالم فعلًا؟
تشريح السلطة غير المرئية في زمن الحكومات المنتخبة
بقلم: آية علي الزين
مقدّمة: حين يصبح السؤال جريمة
في عالمٍ يُفترض أنّه محكوم بالدساتير، وصناديق الاقتراع، وتداول السلطة، يبرز سؤال مزعج لا تحبّ الأنظمة سماعه: من يحكم فعلًا؟
ليس من يحكم نظريًا، ولا من يظهر على الشاشات، بل من يقرّر الاتجاهات الكبرى، ويضع السقوف، ويرسم الخطوط الحمراء التي لا يتجاوزها أحد.
هذا المقال لا يبحث عن “حكومة سرّية” بمعناها السينمائي، ولا يروّج لنظريات المؤامرة، بل يحاول تفكيك ما يمكن تسميته بـ السلطة غير المرئية: تلك الشبكة المعقّدة من المصالح، والمال، والنفوذ، التي تعمل بهدوء خلف واجهة الدولة الحديثة.
أولًا: وهم السيادة… حين تكون الدولة واجهة
تُقدَّم الدولة الحديثة على أنّها الكيان الأعلى: تشرّع، تحكم، تقرّر، وتعاقب. لكن الواقع يكشف شيئًا آخر:
في كثير من الأحيان، تتحوّل الدولة إلى واجهة إدارية، فيما القرار الحقيقي يُصاغ خارج البرلمان، وخارج الحكومة، وخارج حتى الوعي الشعبي.
السيادة لم تختفِ، بل تغيّر شكلها. لم تعد سيادة جغرافية فقط، بل سيادة مالية، تكنولوجية، إعلامية. ومن لا يملك أدوات هذه السيادة، لا يملك القرار مهما امتلك من خطابات وطنية.
ثانيًا: رأس المال كحاكم أعلى
إذا أردنا اختصار شكل السلطة في القرن الحادي والعشرين بكلمة واحدة، فستكون: المال.
الشركات العملاقة، المصارف العابرة للحدود، صناديق الاستثمار، ليست مؤسسات اقتصادية فقط، بل قوى سياسية غير منتخبة:
- تموّل الحملات الانتخابية
- تؤثّر على التشريعات
- تفرض أولويات اقتصادية
- وتُعاقِب الدول عبر الأسواق لا الجيوش
السياسي الذي يصل إلى الحكم دون رضا رأس المال، غالبًا ما يُحاصَر، أو يُشيطَن، أو يُستبدَل بآخر «أكثر عقلانية».
ثالثًا: الإعلام… صناعة القبول لا نقل الحقيقة
لا تحكم السلطة بالقوة فقط، بل بالاقتناع. وهنا يدخل الإعلام كأخطر أدوات الحكم غير المباشر.
الإعلام الحديث لا يقول للناس ماذا يفكّرون، بل عمّا يجب أن يفكّروا فيه:
- يضخّم قضايا
- يهمّش أخرى
- يصنع أبطالًا وأعداء
- ويعيد تعريف الواقع بلغة ناعمة
حين تُدار المعركة على الوعي، يصبح المواطن شريكًا في إعادة إنتاج السلطة التي تهيمن عليه، دون أن يشعر.
رابعًا: التكنولوجيا… السلطة التي لا نراها ولا ننتخبها
لم تعد السلطة حكرًا على السياسة والمال. اليوم، الخوارزميات تقرّر:
- ماذا نرى
- ماذا نصدّق
- ماذا نخاف
- وماذا نتجاهل
شركات التكنولوجيا الكبرى تمتلك بيانات تفوق ما تملكه حكومات بأكملها. وهي لا تحتاج إلى الانقلاب على الدولة، لأنها ببساطة تتجاوزها.
نحن لا نعيش فقط تحت مراقبة غير معلنة، بل داخل فضاء مُصمَّم مسبقًا لتوجيه السلوك، وتوقّع القرار، وتقليص هامش الحرية.
خامسًا: الخوف كأداة حكم
لا تحتاج السلطة غير المرئية إلى القمع الدائم. يكفيها إدارة الخوف:
- خوف اقتصادي
- خوف أمني
- خوف صحي
- خوف وجودي
في لحظات الخوف، يتنازل الناس طوعًا عن حقوقهم، ويقبلون بإجراءات لم يكونوا ليقبلوها في الظروف العادية. وهكذا تتحوّل الأزمات إلى فرص لإعادة ترتيب السلطة.
سادسًا: هل نحن أمام حكومة خفية؟
السؤال الأدق ليس: هل هناك حكومة خفية؟
بل: هل ما زالت الحكومة هي مركز السلطة؟
نحن أمام منظومة لا تحتاج إلى غرفة مظلمة تُدار فيها المؤامرات، بل إلى:
- مصالح متقاطعة
- قواعد غير مكتوبة
- توافقات صامتة
السلطة اليوم ليست شخصًا ولا حزبًا، بل بنية كاملة تعمل بسلاسة، دون أن تُعرِّف عن نفسها.
خاتمة: المعرفة كفعل مقاومة
أخطر ما في السلطة غير المرئية، ليس قوّتها، بل طبيعتها الصامتة.
وحين لا نراها، لا نحاسبها.
هذا المقال لا يدّعي امتلاك الحقيقة الكاملة، بل يطرح سؤالًا ضروريًا:
إذا كانت الديمقراطية تمنحنا حق الاختيار، فهل نختار فعلًا؟
في زمن تتداخل فيه السياسة بالمال، والإعلام بالتكنولوجيا، يصبح الوعي ليس ترفًا فكريًا، بل أبسط أشكال المقاومة.


