×

النوستالجيا… لماذا نشتاقُ إلى أيامٍ لم تكن مثالية؟

النوستالجيا… لماذا نشتاقُ إلى أيامٍ لم تكن مثالية؟

بقلم: آية علي الزين


في زحمة الحياة الحديثة، وسط الضجيج الرقمي، والتسارع الزمني، والانغماس في متطلبات يومية لا تنتهي، يطلّ علينا الحنين من شقوق الذاكرة كضوءٍ خافت في عتمة ضجيج العالم. نشتاق، بلا سببٍ واضح، إلى ماضٍ لم يكن يومًا خاليًا من المتاعب، لكننا نصرّ على تذكّره كأنه كان الجنة الضائعة.
فما سرّ هذه النوستالجيا التي تطرق أبواب وجداننا بلا استئذان؟
ولماذا نهرب من الحاضر إلى ماضٍ، ندرك تمامًا أنه لم يكن مثاليًا؟


الحنين: ذاكرةٌ تنتقي ما تشاء

النوستالجيا، أو الحنين، ليست مجرّد شعورٍ عابر يزورنا عند سماع أغنية قديمة أو رؤية صورة باهتة في درج منسيّ. بل هي حالة نفسية مركّبة، تُمثّل التقاء العاطفة بالذاكرة، حيثُ تقوم الأخيرة بانتقاء لحظاتٍ محدّدة، غالبًا مشرقة، وتعيد بثّها في عقولنا بإضاءة دافئة ومضلّلة أحيانًا.

فالدماغ، في كثيرٍ من الأحيان، لا يسترجع الواقع كما هو، بل كما أراد أن يتذكّره. ولهذا، نميل إلى تذكّر “طعم الخبز الساخن” في بيت الجدّة، أكثر من تذكّر برد الشتاء القارس، أو الخلافات العائلية التي كانت تحدث في ذات البيت.

الحنين ليس فقط لما عشناه، بل أحيانًا لما تمنينا عيشه، أو ما رسمناه في مخيّلتنا، ثم ألبسناه لباس الذكرى.


الهروب من الحاضر: دفاعٌ نفسي أم حاجة إنسانية؟

حين تضيق بنا اللحظة، وتتداخل الأحداث حولنا بشكل لا يُطاق، نبحث عن ملجأ. والماضي، بطبيعته “الثابتة”، يبدو أكثر أمانًا من حاضرٍ متقلّب، ومستقبلٍ غامض.

في علم النفس، يُنظر إلى النوستالجيا أحيانًا كـ”آلية دفاعية” يستخدمها الإنسان لمقاومة القلق الوجودي أو الضغط النفسي. فالعودة إلى الماضي تمنح شعورًا مؤقتًا بالطمأنينة، وتُعيد توازن الهوية، خصوصًا في أوقات التغيير أو الغربة أو الفقد.

لكن، في المقابل، يراها البعض حاجة إنسانية أصيلة، لأن الإنسان بطبيعته كائنٌ سردي، يحتاج إلى قصصٍ تحكي من هو، ومن كان، ليصوغ من خلالها من سيكون.


نوستالجيا جماعية… حين يشتاق المجتمع لنفسه

النوستالجيا لا تقتصر على الأفراد فقط، بل تتجلّى أحيانًا بشكلٍ جماعي. نرى ذلك في الحنين إلى “الزمن الجميل”، أو “أيام الطيبين”، أو “الماضي البسيط”. تلك العبارات التي تُتداول بكثرة في المجتمعات التي تشهد تغيرات سريعة أو تحولات ثقافية تهزّ الهوية الجمعية.

في العالم العربي مثلًا، تُغذّي وسائل الإعلام هذا النوع من النوستالجيا الجماعية، عبر إعادة بثّ البرامج القديمة، والأغاني التراثية، ومقاطع من مسلسلات الأبيض والأسود.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه:
هل نحن فعلاً نشتاق لتلك الحقبة، أم أننا نرفض الحاضر؟


صناعة النوستالجيا: حين يتحوّل الحنين إلى سوق

لم يكن الحنين يومًا محايدًا. فالصناعات الثقافية، من السينما إلى الإعلانات، أدركت باكرًا أن النوستالجيا تبيع. إذ تُستخدم كأداة تسويقية تُغلف المنتج بغلاف عاطفي. تُعيد ماركات تجارية شهيرة تصميم أغلفتها القديمة، وتطلق أفلامًا بتقنيات حديثة لكن بروح الماضي، وتُنتَج أغنيات جديدة تُحاكي ألحان الزمن الفائت.

نحن لا نشتري فقط منتجًا، بل نشتري معه ذكرى.
نشتري شعورًا كنّا نظن أنه ضاع، فنحاول استعادته في سلعة، أو أغنية، أو حتى في منشور على مواقع التواصل.


الحنين السامّ: متى يصبح النوستالجيا عبئًا؟

رغم جمال الحنين، إلا أنه قد يتحوّل إلى فخّ نفسي إذا طغى على الواقع. فالتعلق بالماضي قد يُعيق النمو، ويُكرّس الرفض اللاواعي للتجديد، ويمنع المصالحة مع الحاضر.

فالنوستالجيا السلبية تُصوّر الماضي كجنّة، والحاضر كجحيم، وتزرع فينا شعورًا دائمًا بالفقد، وتُفقدنا القدرة على صناعة لحظات تستحق أن تُصبح “ذكريات جميلة” لاحقًا.

الماضي ليس أفضل ولا أسوأ. هو فقط كان. وقد مرّ. وما نملكه الآن هو الحاضر، بما فيه من صخبٍ وحريةٍ وإمكانات.


في الختام: هل نشتاق حقًا للأيام؟ أم لما كنّا عليه فيها؟

ربما، نحن لا نشتاق للأيام بحدّ ذاتها، بل إلى أنفسنا القديمة، إلى لحظاتٍ كنّا فيها أقلّ قلقًا، أكثر براءة، أكثر حماسًا، أو ببساطة، أقل وعيًا بتعقيد الحياة.

الحنين ليس مرضًا، بل مرآة. وعلينا ألّا نكسرها، بل أن نتعلّم كيف ننظر عبرها بصدق. أن نستحضر الماضي لا لنلغي الحاضر، بل لنفهمه.
فالحياة لا تُعاش في الأمس، ولا تنتظر في الغد. الحياة، بكل ما فيها، الآن.

صحفية وباحثة في مجال الإعلام، حاصلة على درجة الماجستير في الإعلام والتواصل الجماهيري والدراسات السينمائية. مؤسِّسة مجلة "فكر وخبر"، وتهتم بالكتابة في قضايا السياسة والفكر والثقافة والإعلام.